الرئيسية | دراسات أُسس | ظاهرة التسول في اليمن

ظاهرة التسول في اليمن

وبعض التجارب العالمية لمكافحتها

15 يونيو 2025
د. لـيـنـا محمد العبسي

ملخص

تُعد ظاهرة التسول إحدى المشكلات الاجتماعية المتكررة في المجتمع اليمني، لا سيما مع تفاقم الأوضاع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية للبلاد، ومرور الأفراد داخل المجتمع بإحدى أشد الأزمات التي يواجهها اليمن –وما يزال- في تاريخه القديم والمعاصر.

تهدف هذه الدراسة إلى التعرف على ظاهرة التسول في المجتمع اليمني من خلال البحث في حجم الظاهرة، وانتشارها، وتحديد أهم المؤشرات التي تدل عليها، بالإضافة إلى تقديم رؤية تحليلية سوسيولوجية لواقع المجتمع اليمني، بما يُسهم في تقديم جملة من الحلول والمعالجات لهذه الظاهرة. اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، والمنهج الإحصائي كمنهجية للدراسة، وتوصلت في نهاية المطاف إلى عدد من النتائج، أهما: ضرورة التوصل إلى حل سياسي شامل وعاجل في اليمن، وتطبيق قوانين تجريم التسول، وتنفيذ برامج تأهيلية تدريبية للمتسولين القادرين على العمل ومساعدة المحتاجين والفقراء منهم، وإجراء دراسة مسحية ميدانية لظاهرة التسول في اليمن لحصرها، وتحديد حجمها، وأسبابها، ووضع الحلول الممكنة لها.

كلمات مفتاحية: التسول، الفقر، البطالة، مستوى الدخل، التنمية، اليمن.

Abstract

Begging phenomenon is considered one of the social problems in the Yemeni society, especially after the deterioration of the country’s political, social, and economic conditions, as well as Yemeni individuals within the society experiencing one of the most severe crises that Yemen has faced in both its ancient and contemporary history.

This study aims to identify the begging phenomenon in the Yemeni society through investigating its size, spread, and the most important indicators indicating it, as well as presenting a sociological analytical vision of the reality of the Yemeni society that contributes to providing a set of solutions and treatments for this phenomenon. This study relies on the descriptive analytical approach and the statistical approach as a methodology for the study. It concludes that there is a necessity of the following: having a comprehensive and urgent political solution in Yemen, implementing laws that criminalize begging, implementing training and rehabilitation programs for beggars capable of working, in addition to conducting a field survey of this phenomenon in Yemen to identify it, determine its extent, causes, and possible solutions.

Keywords: begging, poverty, unemployment, income level, development, Yemen.

1. الإطار العام

1-1. مقدمة

تبرز ظاهرة التسول كواحدة من الظواهر الاجتماعية المتجذرة في العديد من المجتمعات، وخصوصًا في دول العالم الثالث، ومن ضمنها المجتمع اليمني. وعلى الرغم من الجهود والسياسات التي تبنتها الحكومات المتعاقبة خلال الفترات المختلفة، فإن هذه الظاهرة لا تزال حاضرة بقوة ومستمرة في الانتشار، بل إن وتيرة تفاقمها قد ازدادت بشكل لافت في السنوات الأخيرة، خصوصًا في ظل الأزمة الراهنة التي تمر بها اليمن، والتي تُعد من أصعب الأزمات في تاريخها المعاصر.

وتزداد خطورة الظاهرة نظرًا لارتباطها الوثيق بظواهر سلبية أخرى، مثل السرقة، والانحراف، والجريمة، والسلوكيات غير السوية، ما يجعلها محل قلق متزايد من قبل الجهات الحكومية والأهلية، المحلية منها والدولية. وقد أطلقت هذه الجهات تحذيرات متكررة من التداعيات الخطيرة للتسول، باعتباره ظاهرة ناتجة عن مشكلات بنيوية كـ الفقر، والبطالة، وتدني مستوى دخل الفرد والأسرة، وفي الوقت نفسه يُمكن أن يكون سببًا لتغذية تلك المشكلات وتعقيدها، ما يجعل مواجهتها ضرورة اجتماعية واقتصادية وأمنية ملحّة.

2-1 . إشكالية الدراسة وتساؤلاتها

يُعد التسول في الجمهورية اليمنية ظاهرة قديمة الجذور لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وقد ازداد انتشارها بفعل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التي أفرزت بيئة غير مستقرة، وعطّلت حركة التنمية، التي ما إن تبدأ في التحرك حتى تعود إلى التراجع مجددًا تحت وطأة الأزمات المتلاحقة التي ما زالت تعصف بالبلاد بشكل يومي.

وقد أثّرت هذه الظروف سلبًا على إمكانية إحداث إصلاحات اقتصادية وإدارية حقيقية من شأنها رفع مستوى معيشة الفرد وتحسين أوضاعه الاقتصادية، التي شهدت تدهورًا واضحًا، خاصة في ظل استمرار الحروب والصراعات، وتحديدًا الحرب الأخيرة التي صاحبتها حالة من الحصار والعقوبات الاقتصادية. ويأتي ذلك في ظل فشل السياسات الحكومية في احتواء هذه الأوضاع، سواء بسبب أسباب داخلية، أو بفعل تدخلات وضغوط خارجية في الشؤون الوطنية، أو نتيجة عوامل أخرى زادت من تعقيد المشهد وتشابكه.

وفي ظل هذا الواقع المتأزم، يجد الفرد اليمني نفسه محاصرًا بالفقر، والبطالة، وتدني مستوى الدخل، إلى جانب غياب التعليم والرعاية الصحية والخدمات الأساسية التي تمكّنه من ممارسة حياته بشكل طبيعي. وأمام هذا الانهيار المتكامل في مقومات العيش الكريم، يصبح التسول وسيلةً سهلة ومباشرة لتلبية الاحتياجات الأساسية، والسعي نحو حدٍّ أدنى من الاكتفاء. علاوة على ذلك، فقد تحوّل التسول لدى البعض إلى مهنة دائمة، بفعل حالة اللا استقرار السائدة، والتي باتت تُشكّل بيئة مشجعة على بروز هذا السلوك، بل وعلى عودة وانتشار ظواهر اجتماعية سلبية أخرى، وسط غياب الرقابة، وضعف المعالجات، وغياب البدائل. وأمام هذا المشهد المعقد، تطرح هذه الدراسة عددًا من التساؤلات الجوهرية التي تسعى للإجابة عنها:

  • ما مدى انتشار ظاهرة التسول في المجتمع اليمني؟
  • ما هي المؤشرات والدلائل التي تعكس تفاقم الظاهرة وتنذر باستمرارها؟
  • ما أبرز الإجراءات والخطوات التي اتخذتها الدولة لمواجهتها؟
  • وكيف يمكن الاستفادة من تجارب الدول الناجحة في الحد من التسول لتطبيقها في السياق اليمني؟

3-1 . أهداف الدراسة

تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق عددٍ من الأهداف المهمة، منها:

  • تحديد حجم ظاهرة التسول في اليمن من خلال الإحصائيات، والتقارير، والدراسات، والأبحاث العلمية.
  • البحث في طبيعة الأسباب والعوامل المؤدية إلى انتشار ظاهرة التسول في اليمن.
  • الاستفادة من تجارب الدول الناجحة عبر إجراء مقاربة بين هذه التجارب وتجربة اليمن في مكافحة ظاهرة التسول.
  • تقديم رؤية تحليلية سوسيولوجية لواقع المجتمع اليمني، بما يُسهم في تقديم جملة من الحلول والمعالجات لظاهرة التسول.

4-1 . منهجية الدراسة

اعتمدت هذه الدارسة على عددٍ من المناهج المستخدمة في العلوم الاجتماعية التي تتناسب مع الظاهرة المدروسة، وهي:

  • المنهج الوصفي التحليلي: وذلك لدراسة ظاهرة التسول من حيث مفهومها، وأنواعها، وأهم المؤشرات التي تدل عليها، بالإضافة إلى وصف وتحليل تجارب الدول الناجحة في مكافحة التسول، وتحديد إمكانية الاستفادة منها وعكسها على واقع المجتمع اليمني.
  • الأسلوب الإحصائي: للاستفادة منه في قراءة الأرقام والإحصائيات الواردة في التقارير والدراسات العلمية التي تحدثت عن الظاهرة موضوع الدراسة.

5-1 . المفاهيم والمصطلحات الأساسية

1-5-1 . مفهوم التسول

يُشير مصطلح التسول إلى قيام الفرد بطلب المساعدة من الآخرين في الطرقات والأماكن العامة، مستخدمًا وسائل متعددة لاستدرار العطف والشفقة، بهدف الحصول على المال أو منفعة ما.[1] ويُعد التسول ممارسة تعتمد في كثير من الأحيان على الحِيَل والادعاءات الكاذبة لخداع الآخرين، وإظهار الحاجة المصطنعة.

ويُعرف التسول أيضًا بأنه: الوقوف في الأماكن العامة أو الطرق وطلب المساعدة من المارة أو المحال التجارية، سواء بشكل مباشر أو من خلال التظاهر بأداء خدمات أو أعمال مثل تقديم ألعاب بهلوانية أو أنشطة تخفي الهدف الحقيقي منها، أو استغلال العاهات والإصابات والمبيت في الطرقات وأمام المنازل، أو استخدام أي وسيلة تنطوي على الغش والتحايل لكسب عطف الجمهور.[2]

كما يذهب البعض إلى اعتباره سلوكًا طفيليًا، حيث يحصل فيه الفرد على المال دون بذل جهد مشروع، فالمتسول أشبه بالطفيلي الذي يقتات من غداء غيره، دون محاولة منه للحصول على غدائه بنفسه.[3]

وبناءً على كل هذه المفاهيم، يمكن تعريف التسول إجرائيًا بأنه:

«قيام الشخص باستعطاف الآخرين من خلال استغلال الأمراض، أو الإعاقات، أو المظهر الخارجي، أو الأطفال، أو أي وسيلة أخرى، بهدف الحصول على المال أو الدعم المادي أو المعنوي له أو لأسرته»

ومن خلال استقراء الظاهرة في الواقع اليمني وغيره، يمكن تصنيف المتسولين إلى ثلاث فئات رئيسية:

  • الفئة الأولى - المتسولون المحترفون: وهم الذين اتخذوا من التسول مهنة دائمة، وغالبًا ما تكون لديهم علاقات مع جهات أو أشخاص نافذين، تضمن لهم الإفلات من العقوبة في حال ضبطهم.
  • الفئة الثانية - المتسولون المجبَرون: وهم الفئات التي تُجبر على التسول قسرًا، مثل الأطفال المختطفين، وضحايا النفوذ والاستغلال، وغالبًا ما يكونون تحت سيطرة عصابات أو أفراد يستغلونهم.
  • الفئة الثالثة - المتسولون نتيجة الحاجة: وهم الأفراد الذين دفعتهم ظروفهم القاسية – مثل الفقر المدقع، أو المرض، أو التشرد – إلى التسول كوسيلة أخيرة للبقاء، وهم غالبًا من الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.[4]

2-5-1 . أنواع التسول

  • تسول مباشر: ويُعرف أيضًا بالتسول الظاهر، وهو التسول الصريح الذي يطلب فيه المتسول المال، ويكون المتسول مرتديًا ملابس ممزقة ومتسخة ويمد يده للمارة، أو يظهر عاهة معينة لديه، أو يردد عبارات معينة مثل عبارات الدعاء التي تستثير عاطفة الناس، ويلاحظ أن معظمهم يجمع بين أكثر من وسيلة منها.
  • تسول غير مباشر: ويُعرف أيضًا بالتسول غير الظاهر «المقنع»، وهو أن يستتر المتسول خلف خدمات رمزية يقدمها للناس كدعوتهم لشراء بعض السلع الخفية كالمناديل الورقية، أو ممارسة عمل خفيف كمسح زجاج السيارات، أو بيع بعض السلع الرخيصة.[5]
  • التسول الإجباري: وهو التسول الذي يعتبر ظاهرة كبيرة وخطيرة على جميع فئات المجتمع، حيث يتم إجبار الأطفال أو النساء للقيام بالشحاذة أو التسول في الشوارع واستغلالهم.
  • التسول الاختياري: وهو اضطرار الشخص للقيام بالتسول ومد يده رغبةً منه في كسب المال من خلال مد اليد.
  • التسول العارض: وهو التسول الطارئ والعابر لحاجة ماسة طارئة للشخص مثل: وقوعه في أزمات مالية متلاحقة، أو ضياع الأموال، وقد تنتهي الحاجة الماسة للمال بعد انتهاء الأزمات المالية.
  • التسول الجانح: وهو التسول الذي تصاحبه الأفعال الإجرامية مثل: السرقة والاحتيال، أو ممارسة بعض الأعمال الإجرامية بحق الأطفال مثل: الاستغلال الجنسي أو الخطف من أجل القيام بهذه الأعمال.
  • التسول القادر: وهو أن يمارسه الفرد السليم الصحيح القادر على العمل، ولكنه يلجأ إلى التسول كسلًا غير راغب في العمل، أو لأنه وجد أموال التسول جيدة وسهلة المنال بخلاف العمل، والكد، والتعب.
  • التسول غير القادر: وهو التسول الذي يمارسه الفرد العاجز الذي لا يقدر على العمل، ولذا فإنه يلجأ إلى هذه الظاهرة.[6]

وتحت هذه الأنواع المختلفة، يُمارس المتسولون العديد من الطرق والوسائل التي تجعلهم يحصلون على المال، ولكن أشدها خطورة هي تلك الممارسات التي تنطوي تحتها الجريمة، والانحراف، وإلحاق الضرر بالأفراد والمجتمع، والتي تشرف عليها أو تنظمها عصابات إجرامية احترافية تجني أموالًا طائلة تحت ذريعة العوز والحاجة.

2. ظاهرة التسول في اليمن

2-1. إحصائيات وأرقام حول ظاهرة التسول في اليمن

تُثبت العديد من الدراسات والأبحاث العلمية التي أجراها باحثون ومهتمون بظاهرة التسول، عدم وجود إحصائيات دقيقة ومحددة توضح حجم انتشار الظاهرة في المجتمع اليمني، ويُعزى ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها غياب قاعدة بيانات رسمية تُعنى بحصر المتسولين عبر مسوحات ميدانية منظمة تُشرف عليها مؤسسات حكومية كـ وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والجهاز المركزي للإحصاء، وغيرها من الجهات ذات العلاقة. وبناءً على هذا القصور، تظهر الإحصائيات المتوفرة حول الظاهرة بطريقتين:

  • إحصائيات مباشرة: وهي الإحصائيات التي يستند إليها الباحثون أثناء دراساتهم الميدانية، والتي يتم جمعها عبر النزول المباشر إلى أماكن تواجد المتسولين، وملاحظة الظاهرة على الأرض.
  • إحصائيات غير مباشرة: وهي ما يتم استخلاصه من تقارير التنمية البشرية، والتقارير العربية والدولية الصادرة عن جهات كـ الأمم المتحدة والبنك الدولي، والتي لا ترصد الظاهرة بشكل مباشر، لكنها تسلط الضوء على المشكلات الهيكلية المرتبطة بها، مثل الفقر، والبطالة، وتدني مستوى الدخل، وضعف الخدمات الصحية والتعليمية، مما يُعد بمثابة مؤشرات غير مباشرة على تفشي التسول.

وفي ظل غياب الإحصاءات الرسمية الحديثة، يمكن الاستناد إلى بعض الدراسات السابقة التي رصدت حجم هذه الظاهرة. فقد أشارت دراسة أُجريت في عام 1999 إلى أن عدد المتسولين في محافظة صنعاء وحدها بلغ نحو 2,598 شخصًا.[7]وفي نهاية العام 2000، قدّرت دراسة أخرى عدد الأطفال المتسولين بحوالي 4,960 طفلًا في نفس المحافظة. كما أشارت تقديرات المجلس الأعلى للأمومة والطفولة بصنعاء بالتعاون مع منظمة اليونيسيف، في العام ذاته، إلى أن عدد الأطفال المتسولين قد يصل إلى 7,000 طفل في أمانة العاصمة فقط.

وفي دراسة أُجريت عام 2007 حول أطفال الشوارع في ثمان محافظات يمنية، قُدّر العدد الإجمالي للأطفال المتسولين وأطفال الشوارع بنحو 30 ألف طفل. وقد شملت هذه الإحصائية الأطفال حتى سن 18 عامًا، مما يعني أن العدد مرشح للزيادة بشكل كبير إذا ما أُضيفت إليه أعداد كبار السن من الذكور والإناث الذين اضطروا للتسول تحت وطأة الظروف المعيشية القاسية، والفقر المدقع، وغياب شبكات الحماية الاجتماعية. ويُلاحظ في هذه الدراسة وجود تداخل واضح بين فئات أطفال التسول، وأطفال الشوارع، وعمالة الأطفال الهامشية، فجميعهم ينحدرون في الغالب من أسر فقيرة ومهمشة، ويجدون أنفسهم في النهاية منخرطين – بشكل أو بآخر – في أعمال التسول.[8]

أما على مستوى محافظة عدن، فقد أُجريت دراسة ميدانية في عام 2024 لدراسة ظاهرة التسول في مديرية المنصورة وبعض المناطق التابعة لها، أظهرت نتائجها وجود 2,887 متسولًا في هذه المديرية وحدها.[9]على الرغم من أنها تمثّل مديرية واحدة فقط من مديريات المحافظة. هذا العدد المسجّل يكشف عن انتشار كبير للظاهرة في عدن، ويدلّ على اتساعها المستمر يومًا بعد يوم.

وجديرٌ بالذكر أن الباحثة سعت في هذه الدراسة إلى رصد إحصائيات كلية لحجم ظاهرة التسول في اليمن، إلا أن ما هو متاح من بيانات يتركّز في بعض المحافظات الكبرى مثل صنعاء وعدن، بينما تفتقر معظم المحافظات الأخرى إلى دراسات وإحصائيات ميدانية دقيقة، وهو ما يعني أن الأعداد الحقيقية للمتسولين في اليمن مرشحة لأن تكون أعلى بكثير، خاصةً في بلد يضم 22 محافظة تعاني غالبيتها من نقص حاد في الموارد والخدمات، إلى جانب تبعات الأزمة المتواصلة منذ أكثر من 15 عامًا، وهي الأزمة التي أدت إلى تحولات جذرية في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وطالت مختلف المحافظات دون استثناء، كما سيتضح في المحور التالي.

2-2 . مؤشرات ظاهرة التسول في اليمن

تُعد القضايا والمشكلات الاجتماعية من الموضوعات الشائكة والمعقدة في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك نظرًا لطبيعتها المتغيرة وخضوعها لعوامل متداخلة ومتعددة. وكما هو معلوم، فإن الظواهر الاجتماعية تتسم بالنسبية، سواء من حيث وجودها أو انتشارها، ما يعني بالضرورة أن أسبابها ودوافعها تختلف باختلاف السياقات التي تظهر فيها، وذلك تبعًا لعوامل منها: طبيعة المجتمع، وبنيته السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وعلاوة على ذلك، قد تختلف أسباب الظاهرة الواحدة داخل المجتمع نفسه تبعًا للفترة الزمنية ونوعية التحولات التي يشهدها، إلا أن هذا لا ينفي وجود عوامل وأسباب مشتركة يمكن أن تكون سببًا في نشوء الظاهرة أو نتيجة لها، سواء على مستوى مجتمع بعينه أو عبر المجتمعات المختلفة.

وفي هذا السياق، يستدل العديد من الباحثين والمهتمين بمؤشرات محددة – تُعد في أغلبها أسبابًا جوهرية لظاهرة التسول- لمعرفة إمكانية استمرار الظاهرة أو تفاقمها، ومن خلالها يتم التنبؤ باتجاهاتها المستقبلية. ومن بين أبرز هذه المؤشرات:

  1. الفقر:
  2. تعتبر ظاهرة الفقر من أهم المؤشرات التي يتم الاعتماد عليها في تحديد انتشار ظاهرة التسول واستمرارها، ونقصد بالفقر هنا عدم القدرة على توفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة، ما يؤدي إلى عدم إشباع الحاجات المطلوبة أو المرغوبة اجتماعيًا ومعنويًا.[10] ومن المعلوم أن العديد من الأشخاص الذين يمارسون التسول ويقدمون عليه غالبًا ما ينتمون إلى خلفيات اقتصادية ضعيفة وإلى أسر فقيرة، أو إلى أسر كانت تعيش في مستوى معيشي لا بأس به ثم انحدر مستواها نتيجةً للأزمات أو الحروب وغيرها لتصبح في مستوى أقل حتى وصلت إلى حافة الفقر، والحاجة، والعوز، فتجد من بين البدائل المتاحة لها الخروج لممارسة التسول كحلٍ تراه مناسبًا لها لتوفير احتياجاتها الأساسية.

    وفي دراسة حديثة أُجريت عام 2022، نفّذ مركز يمن إنفورميشن سنتر استطلاعًا إلكترونيًا شمل عينة مكونة من ٪30.4 من الذكور و٪69.6 من الإناث من مختلف المحافظات اليمنية. وكشفت نتائج الاستطلاع أن الفقر يمثل السبب الأول في تفشي ظاهرة التسول، حيث أشار ٪57.4 من المشاركين إلى الفقر كعامل رئيسي لهذه الظاهرة.[11]

    وتعزيزًا لهذا المعطى، أشار تقرير قياس الفقر متعدد الأبعاد[12] الذي أُجري على عينة مكونة من 1,681 أسرة يمنية، إلى أن نسبة الأفراد الذين يعانون من فقر متعدد الأبعاد في اليمن تبلغ ٪82.7، أي أن أكثر من ثمانية من كل عشرة أشخاص في المناطق المشمولة بالمسح يعانون من أشكال متعددة من الحرمان. وقد بلغت شدة الفقر – أي متوسط عدد حالات الحرمان التي يعاني منها الفقراء – ٪46.7، مما يعني أن الشخص الفقير، في المتوسط، يعاني مما يقارب نصف مؤشرات الفقر المحتملة.

    أما مؤشر الفقر متعدد الأبعاد على المستوى الوطني، فقد سجل متوسط حرمان بلغ 0.386، أي أن الفرد الفقير يواجه، في المتوسط ٪38.6 من جميع أشكال الحرمان المحتملة، إذا ما اعتُبر كل الأفراد مشمولين بظروف الفقر متعدد الأبعاد.

    كما يظهر المؤشر تفاوتًا واضحًا بين المناطق الريفية والحضرية، إذ يميل الفقر إلى أن يكون أعلى في المناطق الريفية بنسبة ٪89.4، مقارنة بـ ٪68.9 في المناطق الحضرية. وقد سجلت محافظتا الضالع والبيضاء أعلى نسب للفقر متعدد الأبعاد، بينما تشير التقديرات في محافظة تعز – نظرًا لكثافتها السكانية – إلى أن نسبة الفقر متعدد الأبعاد فيها تتجاوز ٪40.[13]

    وقد أكد تقرير التنمية البشرية 2023-2024 هذه الصورة القاتمة، حيث صنّف اليمن ضمن الدول ذات التنمية المنخفضة جدًا، بحصولها على المرتبة 186 من بين 193 دولة، بفارق ست مراتب فقط عن جمهورية الصومال، التي جاءت في ذيل التصنيف العالمي. ويُعد هذا التصنيف مؤشرًا صارخًا على عمق المعاناة الإنسانية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع اليمني، وعلى التأثير المباشر للفقر في تغذية ظاهرة التسول وانتشارها.

جدول «1»
يوضح ترتيب الجمهورية اليمنية ضمن تقرير التنمية البشرية «2023-2024»[14]

الترتيب

اسم الدولة

القيمة

القيمة

مجموع الخسارة ٪

القيمة

المجموعة

القيمة

الترتيب

القيمة

مجموع السكان ٪

شدة الحرمان ٪

القيمة

الفارق عن دليل التنمية البشرية ٪

2022

2022

2022

2022

2022

2022

2022

2011-2022

2011-2022

2011-2022

2022

2022

186

اليمن

0.424

0.285

32.8

0.456

5

0.820

166

0.245

48.5

50.6

0.420

0.9

187

بوروندي

0.420

0.273

35.0

0.926

3

0.499

128

0.409

75.1

54.4

0.417

0.7

188

مالي

0.410

0.277

32.4

0.830

5

0.607

153

0.376

68.3

55.0

0.404

1.5

189

تشاد

0.394

0.238

39.6

0.776

5

0.671

163

0.517

84.2

61.4

0.382

3.0

190

النيجر

0.394

0.262

33.5

0.826

5

0.609

154

0.601

91.0

66.1

0.389

1.3

191

أفريقيا الوسطى

0.387

0.237

38.8

-

-

-

-

0.461

80.4

57.4

0.383

1.0

192

جنوب السودان

0.381

0.222

41.7

-

-

-

-

-

-

-

0.376

1.3

193

الصومال

0.380

-

-

0.769

5

0.674

164

-

-

-

0.376

1.1

وبالاستناد إلى ما ورد في هذه التقارير وغيرها، فإن اليمن، وفقًا لتوقعات المحللين الاقتصاديين، لا تزال بعيدة عن تحقيق أي من الأهداف الإنمائية للألفية، كما يُرجّح عدم قدرتها على بلوغ أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، نتيجة التدهور الحاد في مختلف القطاعات الحيوية، وفي مقدمتها القطاع الاقتصادي. ويُجمع العديد من المراقبين على أن تحقيق هذه الأهداف سيظل رهينًا بانتهاء النزاع القائم، واستقرار الأوضاع السياسية والأمنية، بما يُهيّئ الأرضية لانطلاق نهضة تنموية واقتصادية شاملة، تعالج الاختلالات البنيوية، وتعيد رسم مسار التنمية وفق رؤية وطنية متكاملة. ويوضح الشكل التالي تأثير انتهاء النزاع على تحقيق مؤشرات التنمية البشرية في اليمن.

شكل «1»
يوضح انتهاء النزاع في 2019، 2022، 2030 وتأثيره على مؤشر التنمية البشرية[15]
صورة الشكل «1»
المصدر: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2020
  1. البطالة
  2. يُعد العمل أحد أهم مصادر الرزق للناس، لا سيما للفئات الفقيرة والمحتاجة التي لا تملك سوى ما تكسبه من جهدها اليومي لتلبية احتياجاتها الأساسية. ومن هذا المنطلق، فإن انخفاض مستوى الدخل، وغياب فرص العمل، وتحول الأفراد من منتجين إلى عاطلين، كل ذلك يدفع بالكثير منهم إلى اللجوء إلى التسول كخيار اضطراري لتأمين متطلبات الحياة اليومية.[16]

    وفي ظل ما يشهده المجتمع اليمني من أزمات متلاحقة، وما سببته الحرب المستمرة حتى اليوم من آثار مدمّرة على سوق العمل، بما في ذلك تسريح أعداد كبيرة من الموظفين والعمال، فقد أصبحت البطالة أحد المحركات الرئيسية لتنامي ظاهرة التسول. وتُشير الإحصائيات الرسمية إلى أن متوسط معدل البطالة في اليمن بلغ حوالي ٪13.16 خلال الفترة من 1991 إلى 2023. وقد سجل المؤشر أعلى مستوى له في عام 2021 بنسبة ٪18.65، بينما بلغ أدنى مستوياته في عام 1992 بنسبة ٪8.14.[17]

    وهذا يُبرز الارتباط المباشر بين الاضطرابات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، ومن ثم تنامي ظاهرة التسول، خاصة في ظل غياب برامج حماية فعالة أو بدائل معيشية مستقرة تُمكّن الأفراد من تأمين احتياجاتهم بوسائل كريمة.

    وبحسب الإحصائيات، فإن معدل العاطلين عن العمل مرشح للزيادة في ظل استمرار الأوضاع الراهنة. ونتيجةً لذلك، فإن البطالة بما تمثله من الافتقاد للدخل حتى لو كان محدودًا تعني وجود مزيد من المعاناة لا سيما للأسر التي يكون فيها العاطل عن العمل هو معيلها.

شكل «2»
معدل البطالة في اليمن خلال الأعوام من 2013-2024
صورة الشكل «2»

انخفاض مستوى دخل الفرد: ويُعد انخفاض مستوى الدخل من المؤشرات المهمة للجوء الأشخاص نحو ممارسة التسول في ظل غياب البدائل المناسبة لتوفير احتياجات الأسرة.

وكما هو معروف، فقد شهد مستوى دخل الفرد في اليمن تراجعًا حادًا نتيجة للأزمات المتلاحقة التي عصفت بالبلاد، وهو ما انعكس بشكل مباشر على نصيب الفرد من الناتج القومي. وتشير التقارير الاقتصادية إلى أن متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية انخفض من 1,247 دولار في عام 2014 إلى 485 دولار في عام 2017، ليصل إلى 290 دولار فقط في عام 2018، مع التحفظ على الرقم الأخير نظرًا لوجود نسبة كبيرة من موظفي الدولة كانوا لا يستلمون مرتباتهم، وكذا احتساب سعر الصرف عند 250 ريال للدولار في حين فاق سعر الصرف 600 ريال للدولار في المحافظات الشمالية؛ مما يعني انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بحوالي 76,7٪. بالتالي، انخفاض مستوى المعيشة إلى أدنى حد، حتى أصبحت اليمن تقع في مصاف الدول الأشد فقرًا في العالم.[18]

جدول «2»
مستوى دخل الفرد من إجمالي الناتج المحلي من 2010 إلى 2023 [19]

السنة

النمو في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي «٪»

نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، بالأسعار الجارية للدولار الأمريكي

2010

4.4

1155.2

2011

-15.3

1186.5

2012

-0.7

1245.1

2013

1.7

1378.8

2014

-3.2

1430.2

2015

-30.2

1362.2

2016

-12.1

975.4

2017

-7.9

811.2

2018

-2.2

633.9

2019

1.4

623.4

2020

-2.5

559.6

2021

-0.6

522.2

2022

1

615.7

2023

-0.5

477.4

ومن الملاحظ أن مستوى دخل الفرد تأثر بشكلٍ كبير ومباشر نتيجةً لعدة عوامل، منها: الفقر، والبطالة، بالإضافة إلى انقطاع الرواتب، وخسارة العديد من الأفراد لمصادر دخلهم بفعل تعرضها للقصف والاستهداف المباشر وغير المباشر، كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى زيادة تفاقم المشكلة، وزيادة في انخفاض مستوى دخل الفرد بشكلٍ كبير وواضح.

  1. كبر حجم الأسرة:
  2. تتفاقم ظاهرة التسول يومًا بعد يوم بسبب ازدياد الكثافة السكانية، حيث توجد علاقة عكسية بين نمو حجم الأسرة والنمو الاقتصادي ومستوى دخل الفرد، فبينما يزيد النمو الاقتصادي من دخل الفرد، يؤثر نمو الأسرة سلبًا على دخل الفرد.[20] وتُعد الأسرة كبيرة الحجم ضعيفة الدخل من أكثر الأسر عرضةً لظاهرة التسول، حيث أن هذا النوع من الأسر يواجه صعوبةً أكبر في توفير الاحتياجات الأساسية لأفرادها، ما يدفعها إلى ممارسة التسول سدًا لاحتياجاتها المختلفة.[21]

    ولا شك أن زيادة حجم الأسرة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالنمو السكاني، والذي يؤدي – عند بلوغه حدًا معينًا من الكثافة – إلى استنزاف الموارد المتاحة بسرعة، وهو ما تؤكده فرضيات نظرية سكانية تفيد بأن المجتمعات التي تتجاوز فيها الكثافة السكانية قدرة الموارد على الاستيعاب، تدخل في سلسلة من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، من أبرزها: انتشار الفقر، التسول، التشرد، والجوع، وحتى ارتفاع معدلات الوفاة.[22]

    وفي هذا السياق، أشار تقرير نتائج المسح العنقودي متعدد المؤشرات «2022–2023» إلى أن متوسط حجم الأسرة في اليمن يبلغ 6.5 أفراد لكل أسرة،[23] وهو معدل يُعد مرتفعًا مقارنة بالظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تواجهها الأسرة اليمنية اليوم. حيث يعني هذا المعدل المرتفع زيادةً في الاحتياجات، وشحةً في الموارد، وانخفاضًا في مستوى الدخل، وبالتالي البحث عن بدائل لتلبية هذه الاحتياجات بوسائل عدة قد يكون منها: التسول، والتشرد، والجريمة، والانحراف، وغيرها.

  3. النزوح:
  4. تسببت الحرب الداخلية والخارجية التي اندلعت في اليمن منذ عام 2011، في تشريد ونزوح أعداد كبيرة من السكان من مناطقهم الأصلية إلى محافظات يُعتقد أنها أكثر أمنًا واستقرارًا. وقد شهدت البلاد خلال ما يقارب عقدًا من الزمن موجات نزوح متتالية، ازدادت حدتها بفعل تصاعد الأعمال العسكرية، والانهيار الأمني، وتدهور الظروف المعيشية. ولم تقتصر هذه الظاهرة على فئة محددة، بل شملت أسرًا بكاملها اضطرت إلى التنقل بين المحافظات، بحثًا عن الأمان وسبل العيش والبقاء. وقد ساهم هذا النزوح المتكرر في تفكيك البنية الاجتماعية للأسر، وحرمانها من مصادر دخلها التقليدية، وقطع روابطها المجتمعية والاقتصادية، ما جعل كثيرًا منها عرضة للفقر، والعوز، والاعتماد على المساعدات، أو اللجوء للتسول كوسيلة لتأمين ضروريات الحياة.

    إن استمرار النزاع المسلح وتوسع رقعته الجغرافية، يعني بالضرورة تزايد أعداد النازحين وتضخم التحديات المرتبطة بهم، وفي مقدمتها العبء الإنساني والاجتماعي والاقتصادي الذي تمثله ظاهرة التسول الناتجة عن النزوح القسري.

    ففي عام 2024 وحده، سجّلت مصفوفة تتبّع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة 3,668 أسرة نازحة حديثًا، أو نحو 22,008 شخصًا، وذلك في 7 محافظات من أصل 13 محافظة تمكنت الفرق الميدانية من الوصول إليها. وقد تم الإبلاغ عن وجود هذه الأسر في 302 موقع، حيث حُدّدت 1,165 أسرة على أنها ذات أولوية للحصول على المساعدات في مجال المأوى، بينما احتاجت 1,120 أسرة بشكل رئيسي إلى الدعم الغذائي.

شكل «3»
يوضح عدد الأسر النازحة التي رصدتها أداة تتبع النزوح السريع من 2019 إلى 2024[24]
صورة الشكل «3»

    ويُظهر العدد الإجمالي للأسر النازحة حديثًا في عام 2024 انخفاضًا ملحوظًا بنسبة ٪63 مقارنةً بعام 2023، الذي شهد تسجيل 9,958 أسرة نازحة. ويُعزى هذا الانخفاض على الأرجح إلى تراجع حدة الصراع نتيجة استمرار الهدنة بين الأطراف المتحاربة في اليمن للعام الثالث على التوالي.[25]

    ولعل الوضع بات مرشحًا اليوم للعودة إلى التدهور والازدياد مجددًا، لاسيما بعد تصعيد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لغاراتهما على اليمن منذ 15 مارس 2025، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم وانتشار ظاهرة التسول نتيجة ازدياد معدلات الفقر والنزوح وتدهور مستويات المعيشة لدى كثير من الأسر النازحة، التي تجد في التسول وسيلة يسيرة لتأمين احتياجاتها الأساسية.

    وجدير بالذكر أن النزوح لا يقتصر على البحث عن مناطق آمنة فحسب، بل يرتبط أيضًا بانتشار التحضر وتوفر الخدمات، وهما من أبرز العوامل التي تدفع الأفراد إلى ترك قراهم الأصلية والانتقال إلى المدن بحثًا عن ظروف معيشية أفضل. وإن التحضر السريع والعشوائي يدفع بالنازحين من القرى والمناطق ذات الأوضاع الاقتصادية المتدهورة إلى التوجه نحو المدن، فيتحوّل كثير منهم إلى متسولين أو باعة متجولين أو فقراء هامشيين، ما يشكّل عبئًا كبيرًا على المدن المستقبِلة،[26] ويزيد من الضغط على خدماتها، وعلى المساكن والموارد المختلفة، وهو ما ينذر بتفاقم الأوضاع وازديادها سوءًا مع مرور الوقت.

  1. التفكك الأسري:
  2. يُعد من المؤشرات المهمة التي يرى كثير من الباحثين والمهتمين أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بظاهرة التسول، بل وقد تكون أحد أسبابها المباشرة. فقد أكدت دراسة حديثة أن ٪48 من المتسولين أرجعوا سبب خروجهم إلى الشارع وممارستهم للتسول إلى التفكك الأسري الناتج عن الطلاق والخلافات بين الوالدين.[27]

    علاوةً على ذلك، فقد أدّت الحرب الأخيرة إلى تفكيك عدد كبير من الأسر، سواء بسبب فقدان العائل، أو نتيجة ازدياد حدة الخلافات بين أفراد الأسرة بفعل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي فرضها الوضع الراهن، ما دفع العديد من الأفراد –خصوصًا الأطفال– إلى الهروب إلى الشارع هربًا من تلك الضغوط والمشكلات الأسرية.

    وتشير هذه المعطيات مجتمعة إلى أن ظاهرة التسول تجد في المجتمع اليمني بيئة خصبة تُمكّنها من الاستمرار والانتشار، على الرغم من الجهود المبذولة لمكافحتها. وما نود التأكيد عليه هنا هو أن هذه المؤشرات –التي كما رأينا، تتوافر بشكل واضح في واقع الأفراد داخل المجتمع اليمني– ينبغي أن تكون منطلقًا رئيسيًا لفهم الظاهرة والبدء في معالجتها بشكل فعّال. ويتطلب ذلك الاستفادة من التجارب الناجحة في هذا المجال، والعمل على رفع مستويات المعيشة، وبذل جهود ملموسة تسهم في تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.

3. التجارب العالمية لمكافحة ظاهرة التسول

تنتشر ظاهرة التسول في العديد من المجتمعات، ولا تقتصر على دول العالم الثالث كما يظن البعض وفقًا لصورة نمطية شائعة، بل هي ظاهرة عالمية تمتد من أستراليا إلى قطر، ومن الصين إلى الدنمارك، ومن الهند إلى إيرلندا. وتكثر مظاهر التسول في المجتمعات الرأسمالية التي يُسحق فيها الأفراد دون توفير حلول فعّالة للتشغيل أو لتدخلات تعيد تأهيلهم وتدمجهم اجتماعيًا، كما تنتشر بشكل خاص في المدن التي تفتقر إلى نماذج الاقتصاد التضامني والاجتماعي.[28]

وفي مواجهة ذلك، تسعى الدول والحكومات إلى تبني سياسات تدخل متعددة ومتنوعـة للحد من ظاهرة التسول أو من العوامل المؤدية إليها. وتمثّل هذه السياسات، لا سيما الناجحة منها، مرجعًا مهمًا للدول الأخرى في مساعيها لإجراء إصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية تُسهم في تحسين الأوضاع ومعالجة المشكلات، خاصةً إذا تشابهت الأسباب وكانت ظروف التطبيق ملائمة.

وانطلاقًا من ذلك، نستعرض في هذا المحور تجارب عدد من الدول التي تمكّنت من تحقيق تقدم ملموس في مكافحة هذه الظاهرة أو الحد من انتشارها.

1-3 . التجربة الهندية

حققت الهند تقدمًا ملحوظًا في مسار التنمية الاقتصادية، حيث صُنّفت ضمن أسرع اقتصادات العالم نموًا خلال العقود الثلاثة الماضية، وقد تضاعف دخل الفرد تقريبًا ثلاث مرات مقارنة بما كان عليه قبل انطلاق الإصلاحات الاقتصادية في عام 1991. وشهدت البلاد نموًا كبيرًا في الطلب المحلي، وتوسعًا في قطاع الخدمات، وتحسنًا ملحوظًا في أداء الصادرات، إلى جانب جذبها المتزايد للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وذلك بفضل سلسلة من الإصلاحات التي أرست ملامح نموذج تنموي فريد.[29]

وتُعد الهند من الدول التي تجمع بين المتناقضات؛ فبينما تظهر فيها مظاهر التقدم والازدهار، تعاني في الوقت ذاته من تحديات حادة تتعلق بالفقر، والتسول، وسوء التغذية، وتدهور الأوضاع الصحية.

في ظل هذا التباين، لا تتوافر إحصائيات دقيقة توضح العدد الحقيقي للمتسولين في الهند، إلا أن بيانات عام 2015 تشير إلى وجود نحو 413,670 متسولًا، تتصدرهم ولاية البنغال الغربية بقرابة 81 ألف متسول. وتشير بعض المسوحات الميدانية إلى أن 99٪ من الذكور و97٪ من النساء الذين يمارسون التسول إنما يفعلون ذلك نتيجة الفقر المدقع، والهجرة القسرية من المناطق الريفية، وانعدام الفرص الاقتصادية.[30]

وقد سعت الهند إلى الحد من ظاهرة التسول عبر مجموعة من الإجراءات والإصلاحات التي أطلقتها ضمن خططها الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين الأوضاع الاجتماعية. وكان في مقدمة هذه الجهود سنّ عدد من القوانين والتشريعات الهادفة إلى التصدي للظواهر السلبية، وفي مقدمتها التسول، وقد بدأت هذه المساعي منذ فترات مبكرة من تاريخ البلاد. ففي القرن السادس عشر، واجهت الهند أزمات متعددة تمثلت في النمو السكاني الكبير، وانتشار البطالة، وارتفاع معدلات التضخم، وتفشي المجاعات، وهو ما أدى إلى ازدياد الفقر واندلاع حركات العصيان المدني والتمرد في عدة مناطق، الأمر الذي دفع السلطات إلى إصدار قوانين لمكافحة التسول بوصفه تهديدًا اقتصاديًا واجتماعيًا لأمن المجتمع. وخلال أربعينيات القرن العشرين، صدر أول قانون لمكافحة التسول في ولاية البنغال الغربية، أعقبه تطبيق قوانين مماثلة في ولايتي ميسور ومدراس. وبعد الاستقلال عام 1947، تبنّت 18 ولاية هندية تشريعات محلية لمكافحة التسول.

وعلى الرغم من عدم وجود تشريع وطني موحد بشأن التسول، فقد حاز «قانون مومباي لمنع التسول» لعام 1959 اهتمامًا كبيرًا، خاصة أثناء النقاشات حول قوانين مكافحة التسول في البلاد.

طُبّق هذا القانون في مدينة مومباي الكبرى، ثم امتد إلى إقليم دلهي الاتحادي في عام 1960، وكان الهدف المعلن منه هو تجريم التسول قانونيًا، مع منح السلطات صلاحيات ولاحتجاز المتسولين، وحبسهم، ومحاكمتهم، ومعاقبتهم.[31]

وعلى مدى سنوات عديدة، أصدرت العديد من الولايات الهندية قوانين وتشريعات تهدف إلى السيطرة على ظاهرة التسول، وصلت في بعض الحالات إلى حد تجريمها بشكل صريح. ومن أبرز هذه القوانين: قانون حيدر آباد لعام 1941، وقانون التشرد في البنغال لعام 1945، وقانون ميسور 1945، وقانون بومباي 1945، وقانون مدراس 1945، وقانون التشرد في كوشين 1945، وقانون ترافنكور 1945، وقانون بوبال 1947، وقانون بيهار 1947. وفي مرحلة لاحقة، أُدخلت تعديلات على قانون العقوبات الهندي عام 2013، تضمنّت عددًا من الأحكام القضائية الصارمة التي وصلت إلى حد فرض عقوبة السجن لمدة تصل إلى عشر سنوات بحق من يُدان بممارسة التسول، حيث نصّت هذه التعديلات على ما يلي:

  • السماح بالقبض على المتسولين دون الحاجة إلى أمر قضائي.
  • إمكانية الحكم عليهم بالسجن دون محاكمة، أو إرسالهم إلى دور الإيواء أو المؤسسات المعتمدة.
  • تتراوح عقوبة التسول ما بين 3 إلى 10 سنوات سجنًا.
  • منح المحكمة صلاحية إصدار حكم باحتجاز من يعتمد كليًا على المتسول.
  • فرض عقوبات على من يشغّل الأشخاص في التسول أو يستخدمهم لهذا الغرض.
  • تضمين أحكام تُلزم بتقديم التعليم الزراعي والصناعي، والتعليم العام للمتسولين.
  • توفير الرعاية الطبية لنزلاء مراكز الاستقبال والمؤسسات المعتمدة.
  • إذا تم احتجاز أي متسول في مؤسسة معتمدة، ووجد أنه غير سليم العقل أو مصاب بالجذام، فيمكن نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية أو ملجأ للمصابين بالجذام وفقًا لأحكام قانون الجنون الهندي لعام 1912 وقانون المصابين بالجذام لعام 1989.[32]

كل هذه القوانين أسهمت في التخفيف من حدة انتشار ظاهرة التسول لا سيما بعد أن طبقت الحكومة الهندية قوانين صارمة وحازمة ضد المتسولين في مناطق مختلفة من البلاد. ولكن وعلى الرغم من أن هذه القوانين والتشريعات كانت تُسن للتخفيف من حدة هذه الظاهرة، إلا أنها غطت شريحة واسعة من الناس بمن فيهم من يفتقرون إلى مصدر رزق واضح، ومن يطلبون أو يتلقون الصدقات، حيث فرض القانون الهندي عقوبات قاسية على المتسولين المحترفين، وعلى المتسولين المعوزين والفقراء بنفس الدرجة.

يضمن الدستور الهندي الحق في الحياة والحرية الشخصية لجميع المواطنين، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي، فيشمل الحق في الحياة في جميع جوانبها التي تُسهم في جعل حياة الفرد ذات معنى وقيمة. لقد فسّرت المحكمة العليا الهندية المادة 21 من الدستور تفسيرًا حرًا، مؤكدةً على أن الحق في الحياة يشمل الحق في العيش بكرامة بعيدًا عن جميع أشكال الاستغلال. وكما ضَمنت الحق في الحياة، فقد ضَمنت نفس المادة -21- الحق في كسب الرزق. إضافةً إلى ذلك، تكفل المادة 23 من الدستور الحق في حياة خالية من الاستغلال، وتهدف هذه المادة إلى القضاء على التسول وغيره من أشكال الاتجار بالبشر، كما تلزم الدولة بحماية الناس من الاستغلال ومن التخلي المعنوي والمادي.[33]

وكتطبيق عملي لهذا الإجراء، أولت الهند اهتمامًا بإنشاء عدد من مؤسسات الرعاية المخصصة للفقراء والمتسولين، بهدف مساعدتهم على الوقوف مجددًا على أقدامهم. غير أن دور إعادة التأهيل والمؤسسات المعتمدة غالبًا ما كانت غير مؤهلة بشكل كافٍ لتعليم المتسولين سُبل توفير مصادر دخل بديلة. وقد اتّسمت هذه المؤسسات بضعف الاهتمام وسوء الخدمات إلى حدٍ خطير، إذ توفي 286 نزيلًا في دار رعاية المتسولين التابعة لمؤسسات «نيراشيثارا باريهارا كندرا» في مدينة بنغالور بشكل مفاجئ عام 2010، ما كشف عن سوء إدارة واضح، وسلوك لا إنساني من قبل بعض العاملين في تلك المؤسسات.

في المقابل، اتخذت ولاية «أوديشا» خطوات فعالة للكشف عن المتسولين وتقديم حلول بديلة تتضمن برامج إعادة تأهيل شاملة. شملت هذه التدابير توفير الأراضي الزراعية، والمساكن، والتغطية التأمينية، وبطاقات «أدهار» الوطنية، وبطاقات التموين، إلى جانب الرعاية الصحية، وتنمية المهارات الحياتية، واستعادة الثقة بالنفس، والتدريب المهني بما يمكّنهم من العمل بأجر أو لحسابهم الخاص. أما بالنسبة للمسنين، فقد صرّحت الحكومة بأنه سيتم نقلهم إلى دور رعاية مخصصة لكبار السن، فيما يُسمح بإيواء النساء المتسولات في ملاجئ مؤقتة.[34]

وفي يناير 2020، عقدت وزارة العدالة الاجتماعية والتمكين اجتماعًا ضم عددًا من المنظمات غير الحكومية والخبراء وممثلي الولايات المعنية، بهدف وضع استراتيجية لإعادة التأهيل الشامل للمتسولين. وعلى إثر هذا الاجتماع، أطلقت الوزارة مشروعًا تجريبيًا يستهدف سبع مدن: دلهي، وبنغالور، وحيدر آباد، وإندور، ولوكناو، وناجبور، وباتنا. ويُنفذ هذا المشروع بالتعاون مع حكومات الولايات، والأقاليم الاتحادية، والهيئات الحضرية المحلية، والمنظمات التطوعية وغيرها من الجهات الشريكة، كما وضعت وزارة العدالة الاجتماعية والتمكين برنامج «سمايل» لدعم الأفراد المهمشين في تسهيل سُبُل العيش وريادة الأعمال، والذي يتضمن برنامجًا فرعيًا هو برنامج القطاع المركزي للتأهيل الشامل للمتسولين. والذي يغطي عدة تدابير شاملة، بما في ذلك تدابير الرعاية الاجتماعية للمتسولين، وإعادة التأهيل، وتوفير المرافق الطبية، والاستشارات، والتعليم، وتنمية المهارات، وغيرها.[35]

1-1-3. عوامل نجاح التجربة الهندية

  • الإطار القانوني الصارم: أصدرت الحكومة الهندية عددًا من القوانين التي أسهمت بشكل واضح في الحد من ظاهرة التسول، ولا سيما بعد البدء في تطبيقها بجدية من خلال حملات ميدانية بالتنسيق مع الجهات المعنية، شملت مداهمات للمتسولين في الشوارع، والأزقة، والأماكن العامة، مع تطبيق العقوبات المنصوص عليها في تلك القوانين.
  • تشديد العقوبات: شددت الحكومة الهندية إجراءاتها بحق من يُمارسون التسول بشكل مهني، أو من يجبرون الآخرين –خاصة الأطفال والنساء– على التسول بالقوة لتحقيق مكاسب شخصية أو مادية، ما عزز من الردع القانوني لهذه الظاهرة.
  • توفير بدائل إنسانية فعالة: حرصت الحكومة على إنشاء دور رعاية جديدة أكثر كفاءة تعمل على إعادة تأهيل المتسولين، مستفيدةً من التجارب السابقة ومتفاديةً أخطاء المؤسسات القديمة، إلى جانب تحسين جودة الخدمات المقدمة داخل هذه المراكز بما يشمل الرعاية الصحية والتعليم والتدريب.
  • مكافحة الفقر: شهدت الهند تحسنًا ملحوظًا في معدلات الفقر، حيث أشار تقرير البنك الدولي إلى انخفاض نسبة الفقر من 60.9٪ في عام 2015 إلى 46.5٪ في عام 2021. كما أوضحت بيانات المؤسسة الوطنية الهندية للتنمية «NITI Aayog» انخفاضًا من 24.85٪ إلى 14.96٪ خلال الفترة نفسها. وتشير إحصاءات الإنفاق الاستهلاكي بين عامي 2022 و2023 إلى شبه القضاء على الفقر عند مستوى تعادل القوة الشرائية البالغ 1.90 دولار أمريكي في اليوم[36]، ما انعكس إيجابًا على مستويات المعيشة وحدّ من دوافع التسول.
  • برامج التأهيل: ركّزت الدولة على إعادة دمج المتسولين في المجتمع من خلال مبادرات نوعية، مثل منحهم أراضي زراعية لزراعتها واستثمارها، واستخدام عوائدها لتأمين خدمات تعليمية وصحية واجتماعية مستدامة لهم، مما ساعد في تحويلهم من عبء اجتماعي إلى أفراد منتجين.

3-1-2. التحديات التي تواجه التجربة الهندية

  • انتشار ظاهرة الفقر: يُعد الفقر أحد أبرز التحديات التي تعيق جهود مكافحة التسول في الهند، فعلى الرغم من التحسن الملحوظ الذي أظهرته تقارير البنك الدولي، لا تزال الهند موطنًا لربع فقراء العالم. ويعاني حوالي 364 مليون هندي من حرمان شديد في مجالات حيوية مثل الصحة، والتعليم، والتغذية، والصرف الصحي، فيما لا يستطيع سوى 60٪ من سكان الريف الوصول إلى المرافق الصحية الأساسية. كما أن ربع من يعيشون في فقر مدقع هم من الأطفال دون سن العاشرة[37]، ما يعكس عمق الأزمة وتأثيرها طويل الأمد.
  • استفحال ظاهرة البطالة: ارتفع معدل البطالة في الهند إلى أعلى مستوى له منذ 45 عامًا، حيث بلغ وفقًا للمسح الدوري للقوى العاملة التابع للمكتب الوطني لمسح العينات 6.1٪ في عام 2018، بواقع 5.3٪ في المناطق الريفية و7.8٪ في الحضر. وتُعاني العمالة الهندية من أشكال متعددة من الاستغلال، ما دفع نحو 250 مليون عامل إلى تنظيم أكبر إضراب في تاريخ الهند عام 2020، احتجاجًا على سياسات الخصخصة وتنامي الفجوة بين مصالح الشركات الكبرى وحقوق العمال.[38]
  • النمو السكاني الهائل: تُواجه الهند تحديًا ديموغرافيًا غير مسبوق، إذ تجاوز عدد سكانها حاجز المليار ونصف نسمة، متقدمة على الصين. ويؤدي هذا النمو السكاني المتسارع، بالتزامن مع تفشي الفقر والبطالة، إلى ازدياد أعداد المتسولين بشكل ملحوظ، ما يُثقل كاهل السياسات الإصلاحية والتنموية التي تسعى الحكومة الهندية لتنفيذها للحد من هذه الظاهرة.
  • استخدام القوة كوسيلة للمكافحة: اعتمدت الحكومة الهندية في كثير من الأحيان على أسلوب القمع الأمني لمواجهة التسول، من خلال تسيير دوريات شرطية لاعتقال المتسولين في الشوارع والأماكن العامة، مما أدى إلى زج العديد من الفقراء والمعوزين في السجون دون معالجة جذرية لأوضاعهم. إن الاعتماد المفرط على القوة دون توفير بدائل عملية قابلة للتطبيق يُبقي الظاهرة قائمة، بل وقد يؤدي إلى تفاقمها. ورغم الجهود التي تبذلها الحكومة لتقديم حلول بديلة تُعنى بكسب الرزق وتلبية احتياجات المتسولين، إلا أن تلك البدائل لا تزال محدودة الأثر، ولا ترقى إلى مستوى التحديات المتفاقمة التي تواجهها البلاد.

2-3 . التجربة الماليزية

عملت الحكومة الماليزية على توظيف الإطار القانوني كأداة رئيسية للحد من ظاهرة التسول، سواء كان تسولًا قسريًا أو طوعيًا. ففي حالة التسول القسري، الذي يظهر من خلال وجود أفراد أو جهات تُجبر الآخرين على التسول، شُرّعت مجموعة من القوانين التي تتضمن أحكامًا واضحة لملاحقة هذه الأفعال، من بينها: جرائم الاتجار بالبشر، والعمل القسري، والانخراط في الجريمة المنظمة. ويضع كل من القسم 17 «أ» و «ك»، والقسم 32 من قانون الطفل لعام 2001، إطارًا قانونيًا لحماية الأطفال المُستغَلين، ومحاسبة المسؤولين عن استغلالهم. كما ينص قانون مكافحة الاتجار بالبشر لعام 2007، إلى جانب مجلس مكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، على ملاحقة الأنشطة غير القانونية ذات الصلة، بما في ذلك التسول القسري، وتوفير الحماية للفئات المستضعفة.[39]

أما في حالة التسول الطوعي، الذي يُمارس بناءً على رغبة الشخص نفسه، فقد أظهر استطلاع حديث أن 9 من كل 10 متسولين في منطقة «المثلث الذهبي» بكوالالمبور هم من الماليزيين الذين يعانون من الفقر والتهميش الاجتماعي بسبب التقدّم في السن أو الإعاقة أو المرض أو التشرد. أما غير الماليزيين فكانوا جميعهم من لاجئي الروهينجا. وتؤكد هذه النتائج، إلى جانب مسوحات سابقة لوزارة الرعاية الاجتماعية في خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، أن التسول يرتبط أساسًا بمشكلات اجتماعية واقتصادية، وليس بجرائم جنائية، مما يستوجب التعاطي معه على هذا الأساس.

وقد أبدت الهيئات الحكومية وغير الحكومية في ماليزيا اهتمامًا كبيرًا بوضع حلول عملية للتعامل مع هذه الظاهرة. وتصدّرت وزارة المرأة والأسرة وتنمية المجتمع –المسؤولة عن شؤون الرعاية الاجتماعية– هذه الجهود، حيث اضطلعت بدور محوري في صياغة السياسات الخاصة بمعالجة التشرد والتسول. وفي عام 2014، أعلنت الوزارة عن مبادرة جديدة سُميت بـ «عمليات قاسيح»، استهدفت معالجة التشرد في العاصمة كوالالمبور من خلال تنظيف الشوارع من المشردين وإرسالهم إلى مراكز متخصصة لإعادة التأهيل.

في عام 2014 أيضًا، أعلنت وزارة المرأة والأسرة وتنمية المجتمع عن خطط واستراتيجيات تهدف إلى تجريم التسول من خلال تعديل القانون الاتحادي، في إطار سعيها لمواجهة العصابات المنظمة وثني الأفراد عن طلب الصدقات. وقد استندت هذه الاستراتيجيات إلى الصلاحيات الممنوحة للوزارة والهيئات الحكومية الأخرى بموجب قانون الأشخاص المعوزين لعام 1977، ويتيح هذا القانون الفيدرالي لموظفي الرعاية الاجتماعية، وغيرهم من الموظفين المعينين، تنفيذ عمليات خاصة تهدف إلى:

  • احتجاز أي شخص يُصنَّف على أنه «معوز»، وهو من يُشتبه في كونه بلا مأوى أو يمارس التسول.
  • إدخال هؤلاء الأفراد إلى مرافق خاصة للرعاية والتأهيل تديرها وزارة المرأة والأسرة وتنمية المجتمع.
  • تحقيق هدف «صفر تشرد وتسول» في البلاد بحلول عام 2020.

وعلى مدى ما يقارب أربعة عقود، مثّل هذا القانون إطارًا لتنفيذ استراتيجيات مكافحة التشرد والتسول في ماليزيا. ومع ذلك، يرى بعض النقاد أن منح الحكومة صلاحية إبعاد المتسولين قسرًا من الأماكن العامة يُعد انتهاكًا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، ويُقوّض أمن ورفاهية الأفراد الذين يُصنّفون على أنهم «معوزون»، لا سيما إذا لم تُرافق هذه الإجراءات حلولٌ إنسانية مستدامة.

لقد قامت وزارة المرأة والأسرة وتنمية المجتمع في ماليزيا بإنشاء دور رعاية خاصة للمتسولين تتبع لها، من أبرزها مركز «ديسا بينا ديري»، الذي يُوفر خدمات متكاملة تشمل المأوى، والغذاء، والاستشارات النفسية والاجتماعية، ويُعد جزءًا من الحلول المتكاملة لمعالجة ظاهرة التسول.وإلى جانب ذلك، بذلت الحكومة الماليزية جهودًا حثيثة في مكافحة الفقر باعتباره السبب الرئيسي للتسول، من خلال تنفيذ مجموعة من البرامج الاجتماعية والتنموية الهادفة إلى تحسين مستوى المعيشة للأسر الفقيرة، ومن أبرز هذه البرامج:

  • برنامج التنمية للأسر الأشد فقرًا: يهدف إلى خلق فرص عمل مدرة للدخل، وتوسيع نطاق الخدمات في المناطق الفقيرة ذات الأولوية. شمل البرنامج بناء مساكن جديدة، وترميم وتأهيل المساكن القائمة، وتحسين ظروف السكن، فضلًا عن توفير المياه النقية، والكهرباء، وشبكات الصرف الصحي.
  • برنامج أمانة أسهم «البوميبترا»: برنامج تمويلي يتيح للفقراء من السكان الأصليين «البوميبترا» الحصول على قروض بلا فوائد، بفترات سداد تصل إلى أربع سنوات، مع إمكانية استثمار جزء منها في شراء الأسهم من خلال المؤسسة ذاتها.
  • برنامج أمانة اختيار ماليزيا: مبادرة غير حكومية تنفذها منظمات أهلية من مختلف الولايات، وتهدف إلى تقليل الفقر المدقع من خلال زيادة دخل الأسر الأشد فقرًا، وتقديم قروض دون فوائد لتمويل مشاريع صغيرة في مجالات الزراعة والأعمال الحرة، بدعم تمويلي من الحكومة.
  • تقديم الإعانات والمنح المالية: تشمل منحًا شهرية تتراوح بين 130 و260 دولارًا أمريكيًا للأشخاص غير القادرين على العمل بسبب الإعاقة أو الشيخوخة، والذين يعولون أسرًا.
  • توسيع البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق النائية والفقيرة: من خلال تحسين شبكات النقل، والاتصالات، وبناء المدارس، وتوفير الخدمات الصحية والكهرباء، وذلك ضمن استراتيجية التنمية الوطنية «رؤية 2020».
  • الاهتمام بالتعليم المجتمعي للفقراء: عبر دعم المدارس الدينية الممولة بالعون الشعبي، والتي تسهم في تعزيز فرص التعليم للأطفال الفقراء وتشجيعهم على الاستمرار في الدراسة.[40]

كل هذه المبادرات والإصلاحات أسهمت بوضوح في الحد من انتشار ظاهرة التسول في المجتمع الماليزي، وفي تهيئة بيئة تنموية واقتصادية جعلت من ماليزيا نموذجًا ناجحًا في التحول الاجتماعي والتنموي، ضمن رؤية طموحة لبناء اقتصاد تنافسي عالميًا.

1-2-3 . عوامل نجاح التجربة الماليزية

تبرز التجربة الماليزية كواحدة من أبرز النماذج الناجحة في مجال التنمية الشاملة، لما حققته من تقدم ملحوظ خلال فترة زمنية وجيزة نسبيًا، وقد انعكس هذا التقدم بشكل مباشر على حياة الأفراد داخل المجتمع. وتشير مؤشرات التنمية المستدامة إلى أن ماليزيا أصبحت في مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال، حيث استطاعت، من خلال برامجها التنموية وتطوير سياساتها الاقتصادية والاجتماعية على مدى عقود، بناء دولة حديثة ومتطورة. كما تمكنت من تجاوز الأزمات الاقتصادية والمالية الإقليمية والعالمية دون أن تتعرض لانتكاسات جوهرية تعرقل مسارها التنموي.[41]ويُعزى نجاح هذه التجربة إلى عدة عوامل رئيسية، من أبرزها:

  • الاعتماد على سلطة القانون وتفعيلها بصرامة: حيث منحت الحكومة موظفي الدولة صلاحيات قانونية لاحتجاز المتسولين والمشردين ونقلهم إلى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، في إطار قانوني منظم يسعى إلى الحفاظ على النظام العام ومعالجة الظاهرة من جذورها.
  • توفير مؤسسات رعاية متكاملة تشرف عليها الدولة: جهزت الحكومة دور رعاية مخصصة لتقديم خدمات شاملة تشمل الإيواء، والغذاء، والرعاية الصحية، والتعليم، والتدريب، والتأهيل المهني، ما وفر بيئة داعمة لإعادة دمج المتسولين في المجتمع.
  • تبني برامج وطنية فعّالة لمكافحة الفقر: خصصت الدولة ميزانيات ضخمة لتنفيذ برامج تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة، وتوفير فرص العمل، وتعزيز الخدمات في المناطق الفقيرة، بما يعالج الأسباب الجوهرية التي تدفع الأفراد إلى ممارسة التسول.
  • التحول الاقتصادي العميق: شهدت ماليزيا نقلة نوعية في اقتصادها انعكست على ارتفاع مستويات الدخل، وتراجع معدلات البطالة، مع التركيز على تطوير التعليم، وتعزيز البنية التحتية، كأحد المحاور الأساسية في استراتيجيات التنمية المستدامة.

2-2-3 . التحديات التي تواجه التجربة الماليزية

أثبتت التجربة الماليزية في مكافحة التسول أنها إحدى التجارب الناجحة، ولكن على الرغم من ذلك، تواجه هذه التجربة عددًا من التحديات، منها:

  • أثبتت حملات مكافحة التشرد وتجريم التسول عدم فعاليتها في الحد من التشرد والتسول، إذ أنها لا تعالج الأسباب الجذرية الاجتماعية والاقتصادية بفعالية «والتي تشمل، كما هو الحال مع العديد من الأشخاص الذين يعانون من ضغوط التشرد، نقص السكن بأسعار معقولة، وعدم كفاية الدخل بسبب المشاكل الصحية، وانخفاض الأجور، واستغلال العمال، و/أو التمييز في مكان العمل». ومع ذلك، ما تزال هذه التدابير تُنفذ رغم تكلفتها الباهظة التي تصل إلى ملايين الرينغيت سنويًا.
  • إن احتجاز الأشخاص قسرًا في مثل هذه المؤسسات هو إجراء تَحرم فيه الدولة الأفراد من الاستقلالية التي يحتاجونها للتعامل مع الظروف المُحيطة بفقرهم للتغلب عليها. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسات تعمل على تلبية الاحتياجات الأساسية، وتقدم خدمات متنوعة لكن ذلك يأتي على حساب الحريات الشخصية الثمينة، فتلبية الاحتياجات الأساسية لا تكفي كشكل من أشكال الرعاية الاجتماعية العامة، ولا تُعالج جذور مشاكل الفقر والتشرد.
  • إن الاعتماد على النهج العقابي في تنفيذ السياسات هو أمر غير مقبول، إذ يجب أن تكون البرامج الحكومية دائمًا طوعية وليست إلزامية، كما يجب تصميمها بناءً على التشاور مع الأشخاص الذين تهدف إلى خدمتهم.
  • إن انعدام الأمن في الدخل، والسكن، والصحة قد يؤدي إلى زيادة معاناة الناس، بل وحتى إلى تشردهم. علاوةً على ذلك، فإن التفاوتات في مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جميع أنحاء ماليزيا، بالإضافة إلى التمييز الاجتماعي والاقتصادي ضد فئات معينة في المجتمع تعني أن أعدادًا لا تُحصى من الناس يواجهون صعوبات أكبر في الحصول على التعليم، والعمل، وفرص أخرى لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والإنجاز الشخصي.
  • عوضًا عن بحث الحكومة عن الأشخاص المزعوم أنهم معدمين واحتجازهم، يجب على وزارة المرأة والأسرة وتنمية المجتمع والهيئات الأخرى ذات الصلة بها أن تضع وتعدل السياسات والبرامج في نطاق سلطتها لمعالجة أسباب وآثار التشرد بشكلٍ بنّاء، مع احترام حق كل فرد في الكرامة وتقرير المصير.[42]

والجدير بالذكر هنا أنه على الرغم من الثورة الاقتصادية والاجتماعية التي حققتها ماليزيا في حياة أفراد المجتمع، إلا أن تجربتها في هذا المجال لا تزال تعاني من العديد من التحديات أبرزها أن الإجراءات المتخذة لم تُسهم في القضاء على ظاهرة التسول في البلاد، وأن كل الجهود والسياسات المتبعة لم تحقق ما كانت تطمح للوصول إليه وهو «صفر تشرد وتسول» بحلول العام 2020، لكنها بلا أدنى شك ساهمت في التخفيف من حدة هذه الظاهرة إلى حدٍ كبير.

3-3. تجربة اليمن في مكافحة التسول في ضوء تجارب الدول الأخرى «قراءة سوسيولوجية»

سعت الجمهورية اليمينة كغيرها من الدول إلى العمل على مكافحة ظاهرة التسول أو التخفيف من حدتها، وذلك باتخاذ جملة من الآليات والإجراءات التي رأت أنها يُمكن أن تُسهم في تحقيق ذلك. ورغم الظروف الصعبة التي تمر بها اليمن والتحولات الفارقة في طبيعة نظامها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، إلا أن لها عددًا من الإسهامات في معالجة ظاهرة التسول، يمكن أن نشير إليها على النحو الآتي:

1-3-3 . القوانين والتشريعات

تُعد الجوانب القانونية والتشريعية من الأدوات المهمة في الردع والمنع للعديد من الظواهر والممارسات السلوكية غير المقبولة في المجتمع، ومن بينها ظاهرة التسول. وكغيرها من الدول، استندت الجمهورية اليمنية إلى الإطار القانوني في تجريم التسول وتنظيم التعامل معه. فقد نصّت المادة 203 من قانون الجرائم والعقوبات اليمني لسنة 1994 على أن: «كل من اعتاد ممارسة التسول في أي مكان، وكانت لديه الإمكانية للحصول على وسائل مشروعة للعيش، يُعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ستة أشهر. وتُشدَّد العقوبة لتصل إلى الحبس مدة لا تزيد على سنة إذا رافق الفعل التهديد، أو ادّعاء الإصابة بعاهة، أو اصطحاب طفل صغير ليس من فروعه»، كما خوّلت المادة المحكمة صلاحية استبدال العقوبة، حيث يمكنها –بدلًا من الحكم بالحبس– أن تأمر بتكليف المتسول بعمل إلزامي لا تتجاوز مدته سنة، إذا كان قادرًا على العمل، أو إيداعه في ملجأ أو دار للعجزة أو مؤسسة خيرية معترف بها، في حال كان عاجزًا عن العمل، متى ما كان هذا الإجراء ممكنًا.

ويُظهر هذا النص القانوني محاولة الموازنة بين الردع والعلاج الاجتماعي، من خلال توفير بدائل إصلاحية وإنسانية، خاصةً للفئات غير القادرة على العمل، مع التأكيد على تجريم التسول عند توفر القدرة على الكسب المشروع.

كما نص قانون حقوق الطفل لعام 2002 في المادة «145» على أن من واجب الدولة رعاية الأطفال الأيتام، وأبناء الأسر المفككة، والأطفال المحرومين من الرعاية الأسرية والمعيشين على التسول، والعمل على القضاء على ظاهرة التسول من خلال إيداع الأطفال المتسولين والمشردين في دور الرعاية الاجتماعية، وتوجيههم وتأهيلهم ليصبحوا أفرادًا صالحين ومنتجين في المجتمع.

وفي السياق ذاته، أكّدت المادة «146» – الفقرة «أ» على التزام الدولة – من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والمجلس الأعلى للأمومة والطفولة – بإنشاء مكاتب لحماية الأطفال من التشرد والتسول، على أن يتم تخصيص واعتماد ميزانية سنوية ضمن الموازنة العامة للدولة لتأسيس هذه المكاتب وتشغيلها.

أما فيما يتعلق بالجانب المتعلق بالاستغلال الإجرامي المرتبط بالتسول، فقد جاء قانون مكافحة جرائم الاتجار بالبشر لعام 2018، ليُدرج التسول ضمن صور الاستغلال الجنائي في حالات الاتجار بالبشر، فقد نصّت المادة «4» – الفقرة «أ» على أن كل من قام بتطويع أو نقل أو تنقيل أو إيواء أو استقبال أو تسليم شخص أو أكثر، سواء داخل الجمهورية أم خارجها، بقصد استغلاله عبر وسائل غير مشروعة مثل القوة أو التهديد أو القسر أو الاحتيال أو الخداع أو إساءة استخدام السلطة أو استغلال الحاجة أو الضعف، يُعد مرتكبًا لجريمة اتجار بالبشر، كما اعتبر القانون أن من يقوم بإهداء أو بيع أو عرض أو وعد ببيع أو شراء شخص يعد كذلك مرتكبًا للجريمة، وشمل القانون ضمن أشكال الاستغلال أعمال التسول، خصوصًا إذا كان الضحية امرأة أو طفلًا، وحدّد عقوبة الجريمة بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، بالإضافة إلى غرامة مالية لا تتجاوز مليون ريال.

وعلى الرغم من وجود قوانين تُجرّم ظاهرة التسول، وتؤكد على أن رعاية المتسولين من الفئات المعدمة والمعوزة تُعد من أولويات مسؤوليات الدولة، إلا أن ثمة إشكاليتين أساسيتين ما تزالان تحدّ من فاعلية هذا الإطار القانوني:

  • ضعف التفصيل التشريعي: فمعظم القوانين اليمنية، بما فيها تلك التي تضمّنت مواد تتعلق بالتسول، تتسم بالعمومية وعدم التفصيل، ما يُضعف من قابليتها للتنفيذ الفعلي. فعلى سبيل المثال، لا يوجد نص صريح يُعاقب ولي الأمر أو الأسرة التي تستغل أبناءها في التسول، على الرغم من أن هذه الممارسة تُعد شكلًا من أشكال الاستغلال والانتهاك لحقوق الطفل، كما أن المادة القانونية التي تُعاقب المتسول إذا اصطحب طفلًا صغيرًا من غير فروعه بالحبس لمدة لا تزيد عن سنة، تُغفل واقع أن كثيرًا من الأطفال المتسولين هم أبناء حقيقيون للمتسولين أو من أقاربهم، ما يُفلت بالواقعة من نطاق العقوبة.
    إضافةً إلى ذلك، لا يُراعي القانون درجة هشاشة الطفل المصطحب، إذ لم يُشدد العقوبة في حال كان الطفل رضيعًا، أو من ذوي الإعاقة، أو مصابًا بمرض أو تشوه خُلقي،[43] رغم أن هذه الحالات تُعد من أشد صور الاستغلال بشاعة وخطورة.
  • ضعف التطبيق والتنفيذ: فرغم وجود هذا الإطار التشريعي، فإن القوانين تظل في حالة من الجمود العملي، نتيجة ضعف تطبيقها على أرض الواقع، وغياب الآليات الفعالة التي تضمن تفعيلها ضمن سياسات الحماية الاجتماعية أو الإجراءات الأمنية. ويُسهم هذا التراخي في تكريس ظاهرة التسول بوصفها واقعًا مقبولًا أو متروكًا، بدلًا من التعامل معها كظاهرة اجتماعية وقانونية خطيرة تتطلب معالجة شاملة.

وكما هو معلوم، فإن اليمن، رغم ما تمر به من صعوبات وتحديات معقدة، تبذل جهودًا حثيثة لمعالجة الأسباب الجذرية لظاهرة التسول، من خلال تطوير منظومة من السياسات والبرامج والهياكل المؤسسية التي تسهم في تعزيز العمل الاجتماعي والتنموي في البلاد. وفي طليعة هذه الجهود، اتجهت الدولة نحو تطوير سياسة سكانية، حيث تم وضع الاستراتيجية الوطنية للسكان عام 1991، إلى جانب إعداد خطة عمل تهدف إلى الحد من التنامي السكاني المتسارع، لما له من آثار مباشرة على مؤشرات الفقر والبطالة والتسول، كما التزمت اليمن بـ الخطط الخمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن أبرزها: خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للتخفيف من الفقر «2006-2010»، والخطة الخمسية الرابعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية «2011-2015».

وكان قد سبق هذه الخطط اعتماد الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر «2003-2005»، والتي جاءت متوافقة مع الرؤية الاستراتيجية لليمن 2005، وأهداف التنمية الألفية «2000-2015»، كما أنشأت الدولة منظومة مؤسسية تنموية متكاملة تحت اسم «شبكة الأمان الاجتماعي»، تهدف إلى التصدي لمشكلات الفقر والبطالة، والحد من الآثار السلبية الناجمة عن تنفيذ برامج الإصلاح المالي والاقتصادي.[44]

وفي هذا السياق، تم أيضًا إنشاء وتفعيل البرنامج الوطني لمعالجة التسول، الذي يضطلع بعدد من المهام والأنشطة الرامية إلى الحد من ظاهرة التسول أو التخفيف من حدتها، وذلك من خلال برامج تدريبية، ودورات تأهيلية، وفعاليات توعوية وتنموية، تستهدف الفئات المتأثرة بالظاهرة وتعمل على تأهيلها وإعادة دمجها في المجتمع.

فعلى مستوى المحافظات الشمالية مثلًا، وُجدت مجموعة من المراكز والمؤسسات تعمل على رعاية فئات الأيتام، والمتشردين، والأطفال الأحداث، وكبار السن، وذوي الإعاقة، وغيرهم، وقد تم الاستفادة من هذه الجهات في التخفيف من ظاهرة التسول من خلال إيداعهم فيها أو تحويلهم إليها لتلقي الخدمات المختلفة، ومن ثم الإشراف على تقديم الدعم والمساعدات لهم عبر تبني برامج وخطط هذه الجهات، ومساعدتها على تنفيذها للفئات المستفيدة. وعلى سبيل المثال فجهات مثل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والهيئة العامة للزكاة، تم الاستفادة منهما في تنفيذ عدد من المشاريع والبرامج للأسر المعوزة والمحتاجة أو المتسولة المودعة في المراكز التابعة للبرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول، كمركز الرأفة للمتشردين ودار إيواء كرامة «للأطفال، والنساء، والرجال». بالإضافة إلى ذلك، تعمل بعض المراكز على تقديم الخدمات المختلفة بالتعاون مع البرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول، كمؤسسة اليتيم التنموية، ودار الأمل للفتيات، ودار رعاية الأحداث، وغيرها من مراكز الإيواء التي يتم إحالة حالات التسول إليها.

ويقدم البرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول عددًا من البرامج والأنشطة لمكافحة ظاهرة التسول في أمانة العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى كمحافظة حجة، ومحافظة ريمة، ومحافظة المحويت، ومحافظة الحديدة، معظمها بتمويل ودعم مباشر من الهيئة العامة للزكاة، ومن هذه البرامج والأنشطة ما يأتي:

  • تنفيذ فريق فرسان الحماية المجتمعية التابع للبرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول حملة توعية من خلال عمل ملصقات توعوية بمخاطر التسول وبأهمية المبادرات المجتمعية والتوعية القانونية للحد من الظاهرة، وقد تم توزيعها على مناطق مختلفة من أمانة العاصمة.
  • تخريج 80 متدربًا ومتدربة من البرامج التدريبية التي يقدمها البرنامج في مجال المهارات الحياتية وريادة الأعمال، والخياطة والتطريز، وكهرباء السيارات، وتركيب وصيانة الطاقة الشمسية.
  • استكمال المرحلة الأولى من برنامج التمكين الاقتصادي لصالح 95 مستفيدًا من فئة المتسولين، من خلال تنفيذ مشاريع صغيرة في أمانة العاصمة ومحافظتي حجة والمحويت، بتكلفة إجمالية بلغت 70 مليون ريال. وقد شملت هذه المرحلة تنفيذ عدد من مشاريع القروض البيضاء، أبرزها: 25 مشروع هجرة عكسية إلى محافظات المستفيدين حجة والمحويت في مجال الثروة الحيوانية، وتأهيل وتدريب 30امرأة في برنامج التأهيل المهني لدمجهم في سوق العمل، حيث تم تأهيل 25 منهن في مجال خياطة الملابس، و5 نساء في مجالات التصوير والتعليم، هذا بالإضافة إلى 40 مشروع لتسويق المنتجات الزراعية والوجبات الخفيفة بأمانة العاصمة.
  • إجراء دراسات ميدانية لحصر أوضاع المتسولين وأسرهم في أمانة العاصمة، حيث تم تسجيل 2300 حالة، منها 345 حالة تم تصنيفها كمستفيدة من برامج التأهيل الاجتماعي وريادة الأعمال، و603 حالة عاجزة تمت إحالتها إلى الهيئة العامة للزكاة لتقدم لهم رعاية شهرية مستمرة.
  • تنفيذ البرنامج التدريبي الخاص بالتأهيل الاجتماعي وريادة الأعمال، إيذانًا ببدء مرحلة التمكين الاقتصادي للمستفيدين من هذا البرنامج. واستهدف البرنامج، خلال فترة تدريبية امتدت لثلاثة أسابيع، 102 مشاركًا، تم تزويدهم بمهارات في مجالات التأهيل الاجتماعي، وريادة الأعمال، وإدارة المشاريع الصغيرة، بهدف تأهيلهم لإدارة مشاريعهم الخاصة في إطار رؤية البرنامج للتمكين الاقتصادي. ومن ضمن مخرجات البرنامج، تم تسليم عربات وأكشاك «أرزاق طيبة” لعدد من المستفيدين، لاستخدامها في تحضير الوجبات، وبيع المشروبات الساخنة، والفواكه، والخضروات. كما تم تنفيذ برامج تأهيل مهني مخصصة للمتسولين، شملت تأهيل 85 طفلًا في أمانة العاصمة ضمن برامج التأهيل المهني، وإعداد برامج تدريبية خاصة بالتأهيل الاجتماعي وإدارة المشاريع الصغيرة في مركز الإيواء التابع للبرنامج في أمانة العاصمة، والذي عمل على تأهيل عدد من نزلائه، بالإضافة إلى تأهيل 56 امرأة متسولة، بهدف تمكينهن من مهارات التأهيل الاجتماعي، والدعم النفسي، وإدارة المشاريع الصغيرة، تمهيدًا لإدماجهن في برامج التمكين الاقتصادي.
  • تنفيذ خطة مشروع الدراسة المسحية والاجتماعية لحصر المتسولين في محافظات: أمانة العاصمة، صنعاء، حجة، المحويت، الحديدة، وريمة، وذلك من خلال الجهاز المركزي للإحصاء. وهدف المشروع إلى إجراء حصر وتسجيل ودراسة اجتماعية للمتسولين في مختلف المديريات، لتحديد أبرز الجوانب التي تتطلب التدخل والمعالجة. ويُنفذ المشروع على مرحلتين: الأولى تشمل الحصر والمسح الميداني لحالات التسول، والثانية تتضمن القيد والتسجيل، وإشراك الجهات المعنية في وضع المعالجات والبدء بتنفيذ التدخلات اللازمة للحد من الظاهرة.
  • النزول الميداني لدراسة حالات الفوج الثاني من النساء المتسولات اللاتي تم إيواؤهن في أحد المراكز التابعة للبرنامج، وذلك بهدف التحقق من صحة بياناتهن وضمان أهليتهن للإدراج ضمن برامج المعالجات والتدخلات العاجلة. كما شملت الجهود دراسة الوضع الأسري والاجتماعي لـ97 امرأة من النساء اللاتي يمارسن التسول في أسواق العاصمة صنعاء، بهدف فهم ظروفهن بشكل أعمق تمهيدًا لتحديد التدخلات المناسبة. وفي السياق نفسه، تم حصر حالات كبار السن والعجزة والأرامل من النساء والرجال غير القادرين على العمل في أمانة العاصمة، حيث بلغ عدد الحالات التي تم حصرها خلال ثلاثة أيام فقط نحو 400 حالة،[45] ما يعكس حجم الحاجة إلى التدخل الإنساني والاجتماعي في هذا الملف.

أما على مستوى المحافظات الجنوبية، فتستند على القانون اليمني في تجريم ظاهرة التسول، وعلى الإجراءات التي كانت تطبق من قبل، كما سعت إلى بذل جهود للتخفيف من حدة الظاهرة من خلال استخدام سلطة القانون في منعها ومكافحتها، فعلى سبيل المثال، وفي محافظة عدن تحديدًا، وجهت الإدارة العامة للجان المجتمعية التابعة للمحافظة كتابًا رسميًا إلى رؤساء اللجان التابعة لها في مديريات المدينة طالبتهم فيه بتنفيذ توجيهات محافظ عدن بمنع التسول في الشوارع، وقرب المطاعم، وشركات الصرافة، والمساجد، والمراكز التجارية، وسائر الفضاءات العمومية، وأمرتهم بالتنسيق في ذلك مع السلطات الأمن؛ مشيرةً إلى أن الظاهرة لا تخلو من دوافع إجرامية تتعلّق بالاحتيال للحصول على المال بأيسر الطرق، وقد تنطوي على الاتّجار بالبشر عبر مبادرة بعض الأشخاص وحتى العصابات إلى توظيف أفراد من فئات هشة مثل الأطفال والمعوقين للتسوّل لحسابهم.[46] وفي إطار المعالجات، يتم الاستفادة من دور ومؤسسات الرعاية الاجتماعية من خلال إيداع بعض المتسولين فيها لتلقّي خدمات متعددة منها: تلبية الاحتياجات الأساسية وخدمات التأهيل والتدريب، والإعداد لسوق العمل والخدمات الصحية وغيرها من الخدمات الأخرى.

2-3-3 . التحديات التي تواجه تطبيق تجارب الدول الأخرى على اليمن

  • تواجه اليمن تحديات عميقة ومعقّدة تعيق إمكانية تطبيق تجارب الدول الأخرى في معالجة ظاهرة التسول، إذ تعاني البلاد من أزمات متتابعة ومتداخلة، أضعفت بنيتها التحتية، ودمّرت اقتصادها التنموي، ومزّقت نسيجها الاجتماعي. ويزداد الوضع تعقيدًا مع استمرار الحرب، وما يصاحبها من استهداف مباشر للمرافق الحيوية كالـموانئ، والمطارات، والمصانع، والخدمات العامة، الأمر الذي يُضعف الأساس الذي يمكن البناء عليه لمعالجة هذه الظاهرة، في ظل أولويات أكثر إلحاحًا تتعلق بالحفاظ على حياة المواطنين، وتأمين الحد الأدنى من مقومات المعيشة، في مواجهة حرب سياسية واقتصادية تهدد وجودهم ذاته.
  • تُعد ظاهرة التسول في اليمن من الظواهر المتفاقمة والمنتشرة على نطاق واسع، وتشمل مختلف المحافظات والمناطق، رغم غياب إحصائيات دقيقة، إلا أن الملاحَظ هو انتشارها المتزايد في الشوارع العامة، وأمام المراكز الخدمية، والمستشفيات، والبنوك، والأسواق، ما يعكس حجم التحدي الذي يواجه الجهات المعنية.
  • تُشكل الفقر والبطالة السببَين الأبرز في اتساع دائرة التسول، وهما مشكلتان لا تزالان في تصاعد مستمر بفعل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وهو ما يجعل من الصعب القضاء على الظاهرة أو حتى الحد منها ما دامت أسبابها البنيوية باقية دون معالجة.
  • يستمر انقطاع الرواتب وضعف منظومة الضمان الاجتماعي، ما يفاقم معاناة الشرائح الأكثر هشاشة التي كانت تعتمد على الراتب كمصدر دخل أساسي، أو على مبالغ الضمان الاجتماعي كوسيلة للبقاء، وهو ما يدفع العديد منهم إلى اللجوء إلى التسول كخيار اضطراري لا بديل له.
  • يعاني المتسولون في اليمن من ارتفاع معدلات الأمية والجهل، الأمر الذي يعكس ضعف الوعي والإدراك بخطورة ظاهرة التسول وآثارها السلبية، سواء على الفرد أو على المجتمع. ويتجلى هذا القصور بشكل خاص لدى بعض الأسر التي تدفع بأبنائها إلى التسول، فتُربيهم على قيم الذل والمهانة وتحقير الذات، بدلًا من تنشئتهم على الكرامة والعمل والإنتاج. وعلى المستوى المجتمعي، يسود تعاطف عاطفي غير مدروس مع المتسولين، حيث يُقدّم كثير من الناس المساعدة دون وعي بخطورة ذلك على استدامة الظاهرة. فالأمر لا يقتصر على مجرد تلبية احتياجات يومية لهؤلاء الأفراد، بل إن خلف بعضهم عصابات إجرامية منظمة تستغل الفئات الضعيفة –خصوصًا الأطفال والنساء– لتحقيق مكاسب غير مشروعة، وتسهم في نشر الانحراف والرذيلة والتفكك القيمي والأخلاقي داخل المجتمع، تحت غطاء الحاجة والفقر.
  • تُعد السلطة التنفيذية عاجزة فعليًا عن تطبيق القانون وتجريم التسول، في ظل تساهل واضح في التعامل مع الظاهرة، حيث يمارس المتسولون نشاطهم في العلن دون خشية من الملاحقة القانونية أو المساءلة، ما يعكس ضعفًا في الردع وانعدام الرقابة الفعلية.
  • تواجه الجهات المعنية بمكافحة التسول إشكالية في التنسيق والتكامل بين المؤسسات المحلية والدولية، مع افتقار واضح إلى الجدية في التصدي للظاهرة. ويُنظر إليها في كثير من الأحيان على أنها واقع مفروض لا يمكن تغييره في ظل الظروف الراهنة، ما يضعف من فعالية أي تدخل أو سياسة مستدامة لمعالجتها.

4. الاستنتاجات والتوصيات

1-4 . الاستنتاجات

تواجه المجتمع اليمني أزمة إنسانية حادة ألقت بظلالها على مختلف المستويات، وأثّرت بشكل مباشر على الفرد والأسرة والمجتمع ككل، وانعكست بوضوح في اتساع رقعة ظاهرة التسول وتفاقمها وانتشارها في جميع المحافظات.

وتُعد مؤشرات مثل الفقر، والبطالة، وتدني مستوى الدخل من أبرز العوامل الدالة على اتساع الظاهرة، خاصة في المحافظات التي كانت أهدافًا مباشرة للصراع السياسي، وتعاني من نقص حاد في الخدمات الأساسية.

ويُفاقم من المشكلة ضعف تطبيق القانون الذي يُجرّم التسول، ووجود حالة من التساهل في التعامل مع الظاهرة، ما شجّع الكثيرين على اللجوء إليها كوسيلة سهلة للكسب المادي، في ظل غياب المحاسبة الفعلية. كما أن انتشار التسول بهذه الصورة يُشوّه الصورة الحضارية للمجتمع اليمني، ويُناقض قيمه وعاداته وتقاليده وموروثه الثقافي. لذا فإن مواجهة الظاهرة تستوجب تكاتفًا شاملًا من الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات الأهلية والدينية، باعتبار أن التسول مسؤولية مجتمعية مشتركة.

ومن الجدير بالذكر أن تطبيق النماذج الدولية الناجحة في مكافحة التسول لا يزال صعبًا في السياق اليمني ما لم تُعالج الأوضاع العامة للبلاد، خصوصًا في ظل استمرار الحرب، وتراجع مؤشرات الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

2-4 . التوصيات

  • ضرورة التوصل إلى حل سياسي شامل وعاجل لمنع التدهور الحاصل في أوضاع الأسر اليمنية، لا سيما الأسر التي تعاني من الفقر، أو تسببت الحرب في فقدانها للعائل أو الوظيفة التي تعتمد عليها في معيشتها.
  • العمل على تطبيق قانون تجريم التسول، مع تشديد العقوبة على من يُرغم الأفراد على ممارسة التسول قسرًا، أو يستغل طفل، أو معاق، أو مشوه في التسول تحت أي مبرر كان، على أن تشرف على تطبيق القانون هيئة إشرافية ذات سلطة قضائية عليا في الدولة.
  • فرض عقوبات وغرامات مالية على كل من يثبت عليه بأنه يمارس التسول دون الحاجة إليه، ويُقدم عليه بغرض الكسب، وزيادة الربح، أو تكوين ثروة.
  • تنفيذ برامج تدريبية وتأهيلية تشرف عليها الدولة وبالتحديد وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وبالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة تستهدف الأشخاص المتسولين-لا سيما من هم في سن العمل- لإيجاد وسائل بديلة للكسب والرزق، ولانتشالهم من ممارسة التسول، والدفع بهم نحو المشاركة الفاعلة في عملية الإعمار والتنمية.
  • تخصيص ميزانية ثابتة وكافية تُصرف على شكل معونات شهرية عبر جهات الضمان الاجتماعي للأسر الفقيرة والمعوزة والنازحة، والتي فقدت عائلها أو تعتمد على أفراد غير قادرين على العمل.
  • إعداد استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة التسول، وتخصيص ميزانية مالية ثابتة لتنفيذ أهدافها، وبرامجها، وخططها التي تسعى إلى تحقيقها، مع التركيز على تعزيز قيم المساواة والعدالة الاجتماعية.
  • توفير بدائل إنتاجية للمتسولين من خلال إشراكهم في مشاريع زراعية أو خدمية، واستثمار الأراضي الموقوفة لصالح الدولة والاستفادة من عوائدها لدعم برامج مكافحة التسول.
  • الاهتمام بمعالجة الآثار والنتائج السلبية للأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها اليمن، ومن أهمها: انقطاع الرواتب، وانخفاض مستوى الدخل، وتراجع سعر الصرف، والحصار المفروض على البلاد.
  • إجراء دراسة ميدانية تشمل جميع محافظات الجمهورية اليمنية، بهدف تحديد حجم ظاهرة التسول، والتعرف على أسبابها، وعوامل انتشارها، ثم رسم معالجات وحلول وفقًا لنتائجها.
  • إطلاق حملات توعية إعلامية منظمة بالتنسيق مع وزارة الإعلام، تستهدف كشف الجهات التي تستغل التسول لأغراض إجرامية، وتوعية المجتمع بمخاطر الظاهرة وآثارها على الأمن والسلم الاجتماعي.
  • تعزيز الشراكة بين القطاعات الحكومية والأهلية للعمل معًا في تحسين مستوى المعيشة والخدمات الأساسية، بما يدعم جهود الحد من الفقر والتسول والانحراف.

4-3. خاتمة

تُعد ظاهرة التسول من الظواهر المتفشية في المجتمع اليمني، وهي في تزايد مستمر وبوتيرة متسارعة، بفعل مجموعة من العوامل، في مقدمتها الأزمة السياسية التي ألقت بظلالها الثقيلة على الواقع الاقتصادي، فخلّفت تداعيات عميقة وخطيرة انعكست بشكل مباشر على حياة الأفراد والجماعات داخل المجتمع.

ويُنبئ هذا الواقع المأساوي بعواقب وخيمة، حيث يُحرم الكثير من المواطنين من الاحتياجات المعيشية الأساسية، ومن أهمها: الغذاء، والمأوى، والرعاية الصحية، والتعليم، ما يدفعهم إلى اللجوء للتسول كوسيلة للبقاء. ويؤدي ذلك بدوره إلى تفاقم مشكلات الجهل، والأمية، والمرض، والفقر، وانهيار في منظومة الخدمات العامة، وارتفاع في نسب الأمراض والأوبئة والوفيات، وهو ما يُنذر بتدهور شامل في بنية المجتمع اليمني الذي يمر بأحد أسوأ مراحله التاريخية.

ومن هنا، فإن تدارك الأزمة بشكل عاجل بات ضرورة ملحّة، من خلال إطلاق مشاريع لإعادة الإعمار، وتحريك عجلة التنمية التي تعطّلت منذ اندلاع الأحداث وحتى اليوم، بهدف استعادة التوازن الاجتماعي، وتوفير سبل العيش الكريم، والحد من الظواهر السلبية التي تهدد بنية المجتمع واستقراره.

إخفاء المراجع

المراجع

  • أبو تراب. تغريد قاسم، الآثار الاقتصادية لظاهرة التسول في العراق وطرق معالجتها، مجلة دراسات في الاقتصاد وإدارة الأعمال، جامعة العربي التبسي، المجلد الرابع، العدد 2، الجزائر، 2021، ص 484.
  • بوسرسوب. حسان، الفقر وظاهرة التسول في المجتمع الجزائري دراسة ميدانية بولايتي سطيف الجزائر أنموذجًا، مجلة رؤى للدراسات المعرفية والحضارية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد لمين دباغين– سطيف02، المجلد الثامن، العدد 1، الجزائر، 2022، ص 123.
  • الرقيعي. نادية عبدالمجيد، ظاهرة التسول الأسباب والآثار الاجتماعية دراسة تحليلية، مجلة الأستاذ ربيع، جامعة طرابلس، العدد 4، ليبيا، 2023، ص60.
  • Chauhan s. ,Anti-Begging Legislation of India: From Responsibility to Repression. Ma Dissertation. India, 2014, pp. 23- 24.
  • مرابطي. كريمة وآخرون، التسول في ظل جائحة كورونا وانحراف الأحداث، مجلة الساورة للدراسات الإنسانية والاجتماعية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة طاهري محمد بشار، المجلد السادس، العدد 1، الجزائر، 2023، ص340.
  • وسيمي. عبد الكريم، ظاهرة التسول في أفغانستان دراسة تحليلية للأسباب والحلول، بلاغ: مجلة الدراسات الإسلامية والإنسانية، جامعة كارابوك، المجلد الثاني، عدد خاص، تركيا، 2020، ص143.
  • الشرجبي. عادل، التسول: دراسة سوسيو انثربولوجية في العاصمة صنعاء، اليمن، المركز اليمني للدراسات الاجتماعية وبحوث العمل، 1999، ص11.
  • حُمَّد. نورية علي والزعبي، محمد أحمد، ظاهرة التسول وأثرها الاجتماعي والتربوي في اليمن دراسة تطبيقية أمانة العاصمة صنعاء نموذجًا، اليمن، مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، 2012، ص38.
  • المؤلف. الحرب وظاهرة التسول في الجنوب، واقع التسول في عدن «المفهوم والبواعث والتجليات والحلول المقترحة» دراسة استطلاعية، اليمن، مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، 2024، ص8.
  • باحشوان. فتحية محمد، ظاهرة الفقر في اليمن وأثرها على المرأة والطفل، مجلة تنمية وإعمار، مركز يمن انفرميشن سنتر، العدد 6، اليمن، 2022، ص15.
  • استطلاع الأطفال أكثر الفئات تسولاً في اليمن، موقع مجلة صوت الأمل، 14/ يونيو/ 2022، sawt-alamal
  • يعتمد مؤشر الفقر متعدد الأبعاد على المستوى الوطني لليمن على طريقة ألكيرفوستر لقياس الفقر متعدد الأبعاد، ويستخدم مسح التنمية البشرية في اليمن للعام 2021، ويتكون من ستة أبعاد وهي: التعليم، والصحة، وصحة الطفل والأم، والخدمات، ومستويات المعيشة، والتوظيف، بالإضافة إلى 17 مؤشر آخر.
  • برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير قياس الفقر متعدد الأبعاد في اليمن، الأمم المتحدة، اليمن، ديسمبر 2023، ص6.
  • برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية 2023-2024، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، 2025، ص29.
  • برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير قياس الفقر متعدد الأبعاد في اليمن، مرجع سابق، ص9.
  • مصابيح. فوزية، التسول بين الحاجة والامتهان، رسالة ماجستير، قسم علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة سعد دحلب البليدة، الجزائر، 2009، ص28.
  • للمزيد أنظر، tradingeconomics
  • كليب. علي سيف، اقتصاد السوق تجارب عالمية ومتطلبات تطبيقه في اليمن، مجلة أسس، المركز التأسيسي للدراسات والبحوث، العدد 1، اليمن، 2025، ص41.
  • البنك الدولي،النمو في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، عبر الرابط. World Bank
  • Khan, Naushad. Begging Negative Impact on the World Community. Institute of Development Studies, The University of Agriculture Peshawar. Pakistan. Jan, 2020.
  • حسين. صبرية علي، الآثار السلبية لانتشار ظاهرة التسول عند الأطفال في مدينة الديوانية دراسة في الجغرافية الاجتماعية، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، كلية الآداب، جامعة القادسية، المجلد السابع والعشرين، العدد 1، العراق، 2024، ص868.
  • الميتمي. محمد عبد الوهاب، السكان والفقر، مركز التدريب والدراسات السكانية، جامعة صنعاء، اليمن، 2003، ص274.
  • الجهاز المركزي للإحصاء ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، تقرير نتائج المسح العنقودي متعدد المؤشرات 2022-2023، اليمن، 2024، ص36.
  • المنظمة الدولية للهجرة، التقرير السنوي للتتبع السريع للنزوح 2024، اليمن، 2025، ص2.
  • المرجع نفسه، ص2.
  • المؤلف. الحرب وظاهرة التسول في الجنوب، مرجع سابق، ص4.
  • حدجة. صالح أكرم، ظاهرة التسول في المجتمع الحضرمي دارسة ميدانية على المتسولين والمجتمع في مدينة المكلا محافظة حضرموت، اليمن، مركز المعرفة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، 2024، ص 23.
  • الصالحي. عبد العزيز ربحي، التسول المقنع «الأطفال في شِباك سماسرة التسول»، مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، فلسطين، 2023، ص4.
  • عبدو. نوال، التنمية الاقتصادية في الهند بين التحديات الداخلية والمتطلبات الاقتصادية الدولية، أطروحة دكتوراه، قسم العلاقات الدولية، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر3، الجزائر، 2021، ص79.
  • Maitraa, Pratik. Anti beggary laws in India: A critical analysis. Jus Corpus Law Journal. India. Nov. 2021, pp. 551- 552.
  • Chauhan s. Anti-Begging Legislation of India, p. 39.
  • Das, BK. Anti beggary laws in India: A Critical Analysis. International Journal of Law. India. May, 2017, p. 162.
  • Maitraa, Pratik. Anti beggary laws in India, pp.553- 554.
  • Ibid, pp. 556- 557.
  • Press Information Bureau, Government of India, Ministry of Social Justice & Empowerment: SURVEY ON BEGGARS, Dec. 2021, https://www.pib.gov.in
  • شلش. مصطفى، تحدي الفقر في الهند، CAES مركز الدراسات العربية والأوراسية، 4 أغسطس 2024، متوفر على eurasiaar.org
  • عبدو. نوال، التنمية الاقتصادية في الهند، مرجع سابق، ص222.
  • المرجع نفسه، ص226.
  • Rusenko, Rayna M.Homelessness, Begging, and The Destitute Persons Act 1977 | Policy Paper. Malaysia, Jul. 2015, p.13.
  • بن غالية. كنزة وآخرون، التجربة الماليزية في مكافحة الفقر ومقومات نجاحها، المجلة الاقتصادية والمالية، قسم المحاسبة بكلية الاقتصاد بجامعة بنغازي، المجلد الخامس، العدد 2، ليبيا، 2019، بتصرف. ص104-105.
  • هديوة، حسن أحمد ورعد، خالد عبد الكريم، التجربة الماليزية في التنمية المستدامة، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والسياسية، جامعة دمشق، المجلد الأربعين، العدد 2، سوريا، 2024، ص13.
  • Rusenko, Rayna M.Homelessness, ... Persons Act 1977, pp. 1- 2.
  • العبسي. لينا محمد، حقوق الطفل اليمني- إشكاليات الواقع وتطلعات المستقبل، مجلة الدراسات الاجتماعية، جامعة العلوم والتكنولوجيا، العدد 29، 2016، اليمن، ص177.
  • حُمَّد، ...، ظاهرة التسول .... في اليمن، مرجع سابق، ص29.
  • تم إجراء هذا المستخلص من قبل الباحثة، صحفة البرنامج الوطني لمعالجة التسول على فيس بوك، NPABYE
  • إجراءات في عدن للحد من الانتشار المقلق لظاهرة التسول، صحيفة العرب، ص3، 5/10/2024، متوفر عبر alarab

إخفاء المراجع

المراجع