التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن
في ضوء التجارب العالمية
هدفت هذه الدراسة إلى التعرف على التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن، من خلال تسليط الضوء على واقع هذا التعليم في بلادنا من حيث نشأته وتطوره ومعرفة المشكلات التي تحد من قيامه بأدواره، لا سيما في تحقيق عملية التنمية المستدامة، كما أنها عملت على الاستفادة من التجارب الرائدة لبعض الدول بوصفها نماذج عملية تطبيقية واقعية، وقد اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي والمنهج المقارن والأسلوب الإحصائي لدراسة هذه الظاهرة.
وقد أظهرت نتائج هذه الدراسة أن هناك توجهات سلبية ونمطية للمجتمع اليمني نحو التعليم الفني والتدريب، المهني، كما أظهرت تراجعًا واضحًا في أعداد الملتحقين أو المتخرجين من هذا التعليم في ظل غياب عنصر التطوير والتحديث الذي يتناسب مع متطلبات سوق العمل، وأن هناك قصورًا في آلية التنسيق والعمل المشترك بين المؤسسات الحكومية والخاصة في تمويل التعليم الفني والتدريب المهني، إضافة على ذلك عدم الاستفادة من تجارب الدول الرائدة في هذا المجال.
كلمات مفتاحية: التعليم الفني، التعليم التقني، التدريب المهني، التنمية، اليمن.
Abstract
This study aimed to explore technical education and vocational training in Yemen by shedding light on the reality of this education in our country, in terms of its origins and development, and identifying the problems that limit its role, particularly in achieving sustainable development. It also sought to draw on the pioneering experiences of some countries as realistic practical models. The study relied on descriptive analytical approaches, comparative approaches, and statistical methods as methods for studying this phenomenon. The results of this study revealed negative and stereotypical attitudes within Yemeni society toward technical education and vocational training. There is also a clear decline in the number of those enrolled in or graduating from this education, given the absence of development and modernization that aligns with labor market requirements. Furthermore, there are deficiencies in the coordination and joint work mechanisms between government and private institutions in financing technical education and vocational training, in addition to a failure to benefit from the experiences of leading countries in this field.
Keywords: Technical education, technical education, vocational training, development, Yemen.
يحظى التعليم الفني والتدريب المهني باهتمام واسع في جميع أنحاء العالم، ولا سيّما في الدول المتقدمة التي تنظر إليه بوصفه ركيزة أساسية من ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويُعزى هذا الاهتمام إلى الدور الحيوي الذي يلعبه هذا النوع من التعليم في إعداد الكوادر البشرية المؤهلة، واستثمار الطاقات التشغيلية الكامنة، وتحويلها إلى قوة إنتاجية تسهم في تحسين الخدمات ورفع كفاءة الأداء في مختلف قطاعات المجتمع.
وفي ظل الظروف الراهنة التي تمر بها بلادنا، من أزمات اقتصادية متفاقمة وتحديات تنموية متزايدة، يبرز التعليم الفني والتدريب المهني كأداة فاعلة لمواجهة هذه التحديات. إذ يمكن من خلاله التخفيف من معدلات البطالة، وتقليص فجوة المهارات، ورفع مستوى الدخل، وتعزيز فرص الشباب في الحصول على وظائف تتناسب مع قدراتهم ومهاراتهم. كما يُعد من الوسائل الأساسية لمكافحة الفقر، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتنشيط عجلة الاقتصاد الوطني من خلال توفير كوادر مدرّبة تسهم بفعالية في الإنتاج.
وتكمن أهمية هذا التعليم في كونه يوفر مسارًا عمليًا للالتحاق المباشر بسوق العمل، من خلال برامج تدريبية تخصصية تركز على الجانب التطبيقي والمهني، وتمكّن المتدربين من ممارسة ما تعلموه في بيئات عمل حقيقية. وهذا يُسهم في تقليل أعداد الباحثين عن العمل، ويزيد من إنتاجية الفرد، ويعزز من تنافسية الاقتصاد المحلي، لا سيما إذا تم توجيه هذه الطاقات البشرية وتوظيفها ضمن خطط تنموية مدروسة تتكامل فيها جهود مؤسسات التعليم، وسوق العمل، والقطاعين العام والخاص.
يواجه قطاع التعليم في اليمن بشكل عام مشكلات حقيقية في ظل استمرار الأزمات التي يعاني منها وهي الأزمات التي أدت إلى تراجع كبير في نوعية الخدمات المقدمة لا سيما التعليمية والصحية والخدمية؛ الأمر الذي انعكس بدوره على مستويات الالتحاق بالتعليم والاستمرار فيه في ظل الظروف الراهنة، وفي المقابل فإن الاستثمار في التعليم ودعمه والنهوض به يُسهم بشكل كبير في خلق نهضة مجتمعية كبيرة نحو التقدم والتطور، ويساعد على تظافر الجهود الشعبية والوطنية؛ تكريسًا لخدمة المجتمع والدفع به نحو الخروج مما يعانيه.
يُعد التعليم الفني والمهني في الجمهورية اليمنية من أهم العوامل الرئيسة المساعدة على إيجاد فرص التشغيل، والحد من الفقر والبطالة، وتنمية المجتمعات اقتصاديًا واجتماعيًا، ورفع الإنتاجية وتحسين جودتها، وعليه يُعول إحداث نهضة اقتصادية بحيث تتمكن قطاعات الإنتاج المختلفة من مواجهة التطورات السريعة في مجال سوق العمل والتقدم الفني والمهني؛ فالتعليم الفني والمهني يعدّ المسؤول عن إمداد سوق العمل بالكوادر الفنية والمهنية القادرة على التعامل مع أساليب الإنتاج ونوعيته ومع أنواع الخدمات وتحسين المنتج.[1]
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن واقع التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن يعاني من إشكاليات وتحديات حقيقية أثرت في دوره الذي يؤديه وفي أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها، لا سيما بعد التدهور الاقتصادي الذي شهدته البلاد، وتعرض العديد من المعاهد والمراكز لإضرار جسمية نتيجة للاستهداف المباشر بالقصف والتدمير الذي أدى إلى خروجها عن الخدمة بشكل تام أو جزئي، أو نتيجة انصراف الاهتمام العام على مستوى الدولة والاهتمام الخاص على مستوى الأفراد إلى قضايا أخرى تمثل احتياجًا أساسيًا وعاجلًا كتوفير الأمن والغذاء والخدمات الأساسية، ما جعل من مسألة الاهتمام بقطاع التعليم أمرًا ثانويًا بعد أن كان من القضايا الرئيسة التي تُشرف على دعمها الحكومة بشكل مباشر أو غير مباشر.
وانطلاقًا من كل ذلك فإن حل مثل هذه القضايا التنموية لا يكون إلا من خلال تكريس الجهود وتظافرها، وتوجيهها، وبالأخص الجهود البحثية والعلمية التي تدرس الواقع، وتحدد الأسباب، وتحلل المعطيات، وتطرح الحلول والمعالجات العملية لمثل هذه القضايا المهمة والملحة. وأمام إشكاليات التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن تظهر لدينا عدد من التساؤلات المهمة، منها:
تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها ستسهم في تحليل واقع التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن بصورة منهجية، وتتيح فهمًا دقيقًا لطبيعة هذا القطاع الحيوي وأبرز التحديات والمعوقات التي تعترض سبل تطوره وتقدمه. كما تسعى الدراسة إلى تشخيص جوانب القصور والاحتياجات الفعلية التي تعيق فاعلية مخرجات التعليم الفني والتدريب المهني في تلبية متطلبات سوق العمل المحلي والإقليمي.
وإلى جانب ذلك، ستستفيد الدراسة من التجارب العالمية الرائدة في هذا المجال، من خلال تحليل النماذج الناجحة واستلهام الحلول والممارسات التي يمكن مواءمتها مع السياق اليمني، بما يضمن تقديم جملة من التوصيات العملية لمعالجة أوجه القصور وتجاوز العقبات. ومن المؤمّل أن تُسهم مخرجات هذه الدراسة في تعزيز الدور التنموي للتعليم الفني والتدريب المهني، من خلال رفد سوق العمل بكوادر مؤهلة وماهرة، قادرة على التفاعل مع احتياجات التنمية المستدامة والمساهمة الفاعلة في بناء الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
الهدف العام من هذه الدراسة هو التعرف على واقع التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن. ويتفرع من هذا الهدف العام عدد من الأهداف الفرعية، وهي:
استعانت الدراسة الحالية بعدد من المناهج التي تُستخدم في العلوم الاجتماعية والإنسانية وتتناسب مع هذه الدراسة، وهي:
تعددت التعريفات التي حددت مفهوم التعليم الفني والتدريب المهني، ويمكن أن نشير إلى بعضها كما يأتي:
وبعد استعراضنا للتعريفات السابقة يمكن أن نعرف التعليم الفني والتدريب المهني إجرائيًا بأنه: إكساب طلاب الجمهورية اليمنية الملتحقين بالتعليم الفني والتدريب المهني عددًا من المهارات والمعارف والقدرات العلمية والعملية والتطبيقية التي تُمكنهم من ممارسة الحرف والمهن والخدمات المختلفة، وتُلبي احتياجات سوق العمل.
تشمل مستويات التعليم الفني والتدريب المهني في التعليم والتدريب النظامي أربعة مستويات تعليمية وتدريبية هي:
وبحسب هذه المستويات السابقة ينقسم التعليم الفني والتدريب المهني إلى ثلاث مجالات رئيسة هي: صناعي، زراعي، تجاري، وغيرها تتوزع المؤسسات التدريبية التي تقدم التعليم النظامي بحسب المستوى التعليمي والمجالات المتاحة كما في الشكل الآتي:
وجدير بالذكر هنا أن هذه المؤسسات التعليمية تمنح منتسبيها شهادات مزاولة الخدمات والمهن التي تعلموا أو تدربوا عليها خلال مدة دراستهم، ما يزيد من نسبة الكفاية لهذه المخرجات، لا سيما تلك التي أعدت على وفق خطط دراسية وتدريبية ضمن مؤسسات تعليمية متخصصة.
يصعب الحديث عن التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن دون الإشارة إلى واقع هذا النوع من التعليم من خلال استعراض نشأته وتطوره في اليمن عبر المراحل المختلفة، ودون الحديث عن الإحصائيات المهمة الخاصة بالتعليم الفني والتدريب المهني، لا سيما ما يتعلق بأعداد الملتحقين فيه وأعداد المعاهد والمراكز والكليات التابعة له، بالإضافة إلى الإشارة إلى أهم المشكلات التي يواجهها التعليم الفني والتدريب المهني التي تحول دون أدائه لأدواره المطلوبة منه في عملية التقدم والتنمية، كل هذه الموضوعات نوردها بتفصيل موجز على النحو الآتي:
مرت نشأة التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن بعدد من المراحل التي مثلت أطوارًا مهمة في نشأته وتطوره ابتداءً من بداية ظهوره في المجتمع اليمني ووصولًا إلى ما هو عليه الآن، وهذه المراحل هي
تعود البدايات الأولى لتأسيس التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن إلى العام 1895 الذي تأسست فيه أول مدرسة صناعية بصنعاء أسميت مدرسة الصنائع، وفي العام 1927 تأسس المعهد التجاري العدني في مدينة عدن؛ لمواكبة التوسع في الأعمال والوكالات التجارية، لكن الدراسة فيه لم تكن إلا في العام 1954، حيث بدأ بتقديم الدراسة المنتظمة للمستوى المهني لمدة ثلاث سنوات، يتقدم الطالب بعدها لاختبارات المرحلة الأولى التابعة لغرفة لندن التجارية LCC.
كما شهد العام 1936 تأسيس أول مدرسة زراعية في صنعاء، وفي العام 1937 افتتحت مدرسة صناعية لصناعة النسيج واستقدم إليها الخبراء من مصر لتدريب الطلاب على أعمال النسيج والحدادة والنجارة، وأنشئت في العام 1949 بصنعاء مدرسة للبنات لتدريس العلوم الابتدائية والشؤون المنزلية والخياطة والتطريز، وفي العام 1957 افتتح معهد صحي في صنعاء لتدريس العلوم الصحية بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وخبرائها، كما شهدت الخمسينات وبداية الستينات في عدن ظهور التعليم الصحي لإعداد الممرضين والممرضات، وافتتح في مدينة عدن أيضًا في العام 1951 المعهد الفني بالمعلا الذي كان يسمى بالكلية الفنية. وفي العام 1961 بدأ العمل في المعهد في مستوى الدبلوم الفني لتخريج كوادر متوسطة، وفُتح قسم تجاري في المعهد بنظام سنتين يتقدم الطلاب بعدها لامتحان الجمعية الملكية البريطانية للآداب (R.S.A).
حدثت بعد قيام الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر نهضة تعليمية على الرغم من الظروف الصعبة والأحداث الكبيرة التي حدثت في اليمن لا سيما في عقد الستينات، إلا أن التعليم والتدريب المهني والتقني لم يأخذ المكانة التي يستحقها؛ بسبب غياب الوعي الاجتماعي، بالإضافة لعوامل كثيرة سياسية واقتصادية وغيرها، وقد شهدت مرحلة السبعينات والثمانينات نموًا جيدًا لمعاهد ومراكز التعليم والتدريب المهني والتقني، إذ افتتح خلال تلك المدة (47) معهدًا ومركزًا على مستويات مختلفة في البلاد.
تحققت الوحدة اليمنية عام 1990، وكان أول خطوات اهتمام الدولة بالتعليم الفني والتدريب المهني استحداث وزارة العمل والتدريب المهني واستحداث قطاع للتدريب المهني فيها، إلى جانب مؤسسة عامة للتعليم والتدريب المهني والتقني، غير أن ذلك الوضع الجديد لم يكتب له النجاح؛ بسبب الظروف السياسية التي رافقت تلك المرحلة. وفي العام 1992 ألغي قطاع التدريب المهني في الوزارة واستُبدلت به الهيئة العامة للتدريب المهني. وفي عام 1993 دمجت وزارة العمل والتدريب المهني مع وزارة التأمينات والشؤون الاجتماعية، وأصبحت الهيئة العامة للتدريب المهني أحد الأجهزة التابعة لها.
وفي عام 1995 أعيد تنظيم الهيئة العامة للتدريب المهني بـ القرار الجمهوري رقم (64)؛ نتيجة لضرورة تجميع مراكز ومعاهد التعليم والتدريب المهني والتقني تحت مظلة واحدة؛ توفيرًا للإمكانيات وحشدًا للطاقات والكوادر، وتوحيدًا للنظم والمستويات، حيث أصبحت الهيئة بموجبه مسؤولة عن أنواع التعليم والتدريب المهني والتقني ومستوياته كافة، كما صدر في العام ذاته القرار الجمهوري بالقانون رقم (15) الخاص بإنشاء صندوق التدريب المهني والتقني مرتبط بإصلاح نظام التمويل، وفيما يتعلق بجوانب إدارة النظام ورسم سياساته وتنظيمه، فقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم (67) في العام نفسه أيضًا (1995) والخاص بتشكيل المجلس الوطني للتدريب المهني والتقني ليضم في تركيبته مختلف أطراف الإنتاج والجهات المستفيدة ذات العلاقة، ويمثل فيه أصحاب العمل نسبة كبيرة، ويتولى المجلس اقتراح السياسات الموحدة للتدريب المهني والتقني في مختلف مستويات العمل المهني ما دون المستوى الاختصاصي، وذلك بما يلبي احتياجات خطط التنمية وسوق العمل.
وفي العام 1997 وبعد تشكيل الحكومة الجديدة أنشئت وزارة العمل والتدريب المهني وأعيد تنظيمها، كما أعيد تشكيل قطاع للتدريب المهني ليتولى مسؤولية التخطيط للتعليم والتدريب المهني والتقني، وأُبقي على الهيئة العامة للتدريب المهني والتقني لتتولى مسؤولية تنفيذ الخطط والبرامج الخاصة لهذا التعليم على المستوى الوطني.
وفي العام 2001 وبموجب القرار الجمهوري رقم (46) أنشئت الوزارة ضمن التشكيل الوزاري، وقد نص القرار على أن تُنشأ وزارة تسمى وزارة التعليم الفني والتدريب المهني لتنفذ سياسة الدولة وتوجهاتها في تطوير التعليم الفني المهني.[10]
وفي العام 2024 صدر قرار رئيس المجلس السياسي الأعلى رقم (12) لسنة 1446ه بشأن تشكيل حكومة التغيير والبناء التي دُمجت فيها وزارت التربية والتعليم ووزارة التعليم الفني والمهني ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي في وزارة واحدة تحت مسمى وزارة التربية والتعليم والبحث العلمي في المحافظات الشمالية، بينما ظلت الوزارة تحمل المسمى نفسه وضمن التقسيمات السابقة نفسها في المحافظات الجنوبية.
بعد قيام الوحدة اليمنية تزايدت الحاجة إلى مهن عصرية جديدة وأياد عاملة ماهرة تغطي حاجات سوق العمل ومتطلباته، حيث ازداد التوسع في أعداد المعاهد من (22) معهدًا في عام 1996 في (11) محافظة، لتتضاعف في العام 2001 إلى عدد (44) معهدًا مهنيًا وتقنيًا تتبع وزارة التعليم الفني والتدريب المهني، وتشمل (13) محافظة، كما ارتفع في العام 2009 في (19) محافظة عدد المؤسسات التدريبية التابعة للوزارة التعليم الفني والتدريب المهني آنذاك لتصل إلى (79) مؤسسة، من إجمالي عدد محافظات الجمهورية التي تبلغ (21) محافظة هي صنعاء، أمانة العاصمة، تعز، الحديدة، إب، أبين، حضرموت، البيضاء، حجة ذمار، عمران، لحج، المحويت، المهرة، شبوة، الجوف، صعدة، الضالع، ريمة، مأرب، كما ارتفع عدد المؤسسات المهنية والفنية في العام 2012 إلى (89) مؤسسة.[11]
أما على صعيد كليات المجتمع فقد أنشئت أول كلية مجتمع في العاصمة صنعاء عام 1998 ثم أنشئت كلية المجتمع عدن في العام نفسه، بعد ذلك توالى إنشاء وافتتاح العديد من الكليات التقنية التي تضم مختلف التخصصات والأقسام وبرامجها التطبيقية، إلى أن وصلت أعداد كليات المجتمع عام 2020 إلى (20) كلية مجتمع تتوزع على أغلب محافظات الجمهورية خلال مراحل مختلفة من تأسيسها للمدة من (1998-2019).[12]
وفي العام 2024 تم دشن مشروع تجهيز (12) كلية مجتمع بتمويل من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، بتكلفة أكثر من (57) مليون دولار، ويشمل هذا المشروع تجهيز كليات المجتمع في كل من: عدن، وتعز، ومأرب، والضالع، وشرعب، والهجر، وسيئون، وسقطرى، وعمران، وعبس، والشحر، وشبوة، الأمر الذي يعني توسعًا أكبر في أعداد الكليات المنشأة لا سيما في تلك المناطق التي يعاني الأفراد فيها من عدم وجود كليات مجتمع أو من بُعدها عن مكان إقامتهم، وهي زيادة تصل إلى أكثر من 50٪ مقارنة بأعداد كليات المجتمع التي أنشئت - 20 كلية مجتمع - خلال ما يزيد عن 20 عامًا.
أما بالنسبة لأعداد الملتحقين في التعليم الفني والتدريب المهني فقد تباينت نسب الطلاب وازدادت بفعل توسع إنشاء المعاهد والكليات المختلفة، ويمكن أن نوضح أعداد الملتحقين من الذكور والإناث عبر السنوات المتعاقبة وذلك كما في الجدول الآتي:
جدول (1)
يوضح توزيع التغير في أعداد الملتحقين بالتعليم الفني والتدريب المهني للمدة من (1999-2020)
|
العام الدراسي |
معاهد مهنية وتقنية |
الثانوية المهنية |
كليات المجتمع |
الإجمالي |
||||||
|
ذكور |
إناث |
إجمالي |
ذكور |
إناث |
إجمالي |
ذكور |
إناث |
إجمالي |
||
|
2000/1999 |
670 |
0 |
670 |
0 |
0 |
0 |
0 |
0 |
0 |
670 |
|
2005/2004 |
4133 |
415 |
4548 |
0 |
0 |
0 |
725 |
62 |
787 |
5335 |
|
2010/2009 |
4173 |
314 |
4487 |
587 |
124 |
711 |
1600 |
311 |
1911 |
7109 |
|
2015/2014 |
5403 |
570 |
5973 |
641 |
182 |
823 |
2181 |
672 |
2853 |
9649 |
|
2020/2019 |
1567 |
158 |
1725 |
484 |
148 |
632 |
2018 |
652 |
2670 |
5027 |
من خلال الجدول رقم (1) نجد أن العدد الإجمالي للملتحقين بالتعليم الفني والتدريب المهني بمؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني بلغ (5,027) طالبًا وطالبة خلال العام الدراسي(2019-2020)، أي بفارق إيجابي بلغ (4,357) طالبًا وطالبة قياسًا بعام 2000 الذي بلغ فيه العدد الإجمالي (670) طالبًا وطالبة، وهذه الزيادة تمثل استجابة منطقية لزيادة عدد مؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني خلال هذه المدة.
اللافت في هذا الأمر أن هناك تراجعًا كبيرًا في عدد الملتحقين، حيث تقلص عددهم من (9,649) طالبًا وطالبة في العام الدراسي (2014-2015) إلى (5,027) طالبًا وطالبة في العام الدراسي (2019-2020)، بفارق سلبي بلغ (4,622) طالبًا وطالبة، وهذا التراجع يمكن تفسيره في ضوء الآثار السلبية التي أفرزتها الحرب الدائرة في اليمن، ونتج عنها توقف بعض المعاهد والثانويات المهنية وكليات المجتمع عن العمل، بتعرض المباني للتدمير كما هو حال مبنى الثانوية المهنية في أبين، وبسبب تحويلها إلى ثكنات عسكرية كما هو الحال في مبنى التعليم الفني والمهني في محافظة الضالع. كما أن عددًا كبيرًا من المتخرجين من الذكور من التعليم العام التحق بعد 2015 بالسلك العسكري بحثًا عن الوظيفة العامة التي لا يمكن الحصول عليها بشهادة الدبلوم في السلك المدني.
في مقابل ذلك تطور عدد الملتحقات بالتعليم الفني والمهني من الإناث بعد أن كانت نسبة التحاقهن 0٪ من إجمالي الملتحقين في عام 2000، حيث ارتفعت أعدادهن إلى (1,424) في 2015،[13] ويمكن أن نعيد أسباب التحاق الطالبات بهذا النوع من التعليم إلى أنه يوفر للعديد منهن فرصًا للتأهيل والعمل في مجالات تتناسب مع متطلبات سوق العمل في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، ومع بحث العديد منهن عن مصادر بديلة لتحسين مستوى دخلهن أو دخل أسرهن التي ينتمين لها أو يقمن بإعالتها.
يعاني قطاع التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن من جملة من المشكلات والتحديات التي أثّرت - وما زالت تؤثّر - سلبًا على مستوى الخدمات التعليمية والتدريبية التي يقدمها، وفي أعداد الملتحقين به، وكذلك في نسب الاستمرار والإنجاز ضمن هذا القطاع. وقد انعكس ذلك بوضوح على جودة المخرجات، ومدى ملاءمتها لاحتياجات سوق العمل، فضلًا عن التأثير في حجم هذه المخرجات مقارنة بما يتطلبه واقع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وتشير العديد من الدراسات والأبحاث العلمية إلى مجموعة من الإشكاليات التي يواجهها التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن، أبرزها ما يأتي:
يرى الكثير من أفراد المجتمع أن التعليم الفني والمهني من أنواع التعليم المتدنية التي لا تحظى بأهمية في المجتمع، كما أنه ارتبط لدى بعض الناس بانخفاض المستوى الدراسي للملتحقين فيه، وبأنه وسيلة تستكمل من خلالها المسيرة التعليمية بسرعة، من أجل الخروج بحرفة أو مهنة لكسب لقمة العيش.
وعلى وفق التقسيم الاجتماعي انقسم التعليم إلى نوعين، نظري لأبناء الأغنياء ومهني لأبناء الفقراء، غير أنه في ظل مبادئ العدل والمساواة ومبادئ تكافؤ الفرص التعليمية وتفجر ثورة الآمال والطموح اندفع أبناء المجتمع نحو التعليم النظري العام والعالي؛ رغبة منهم في الحصول على المكانة الاجتماعية التي يوفرها التعليم الأكاديمي النظري، وفي المقابل عزفوا عن الالتحاق بالتعليم المهني والتقني، حتى ولو كان ملبيًا لميولهم وقدراتهم، وضامنًا جيدًا لهم للحصول على عمل بعد التخرج، بعكس التعليم النظري الذي صار مؤخرًا يفضي بهم إلى البطالة. وعلى الرغم من تراجع هذه النظرة وتحللها اجتماعيًا؛ بفضل عوامل اقتصادية وإنسانية وعلمية وتكنولوجية، فإنها ما زالت تؤثر سلبيًا في نمو التعليم المهني والتقني، ورعايته الجادة رسميًا وشعبيًا.
امتدادًا للنظرة الاجتماعية المتدنية للتعليم المهني ظل التعليم الذي يقود إلى العمل اليدوي وممارسة الحرف معزولًا عن نظام التعليم الرسمي، غير أنه عندما تغيرت الظروف أخذ العمل اليدوي ينشأ موازيًا عن التعليم النظري وكأنه مساير في عمليته التعليمية للتعليم النظري، بحيث صار لكل منهما نظمه ومسؤولياته الخاصة به حتى ولو كانا تحت إشراف جهة رسمية واحدة؛ فالتدريب الحرفي لا يقود إلى التعليم المهني، والأخير لا يقود إلى التعليم التقني، وكلاهما لا يقودان إلى التعليم الجامعي إلا نادرًا وفي أضيق الحدود، مما أدى إلى فشل صيغ ربط التعليم العام بالتعليم والتدريب المهني والتقني لأسباب عديدة.
وهذا الانفصال كانت له آثاره الخطيرة، فهو من جهة أعطى الاعتراف الرسمي بتمايز أنواع التعليم الذي فيه يعلو التعليم النظري على التعليم المهني، ومن جهة أخرى أعطى وضعًا دونيًا لمن يلتحق بالتعليم المهني، فضلًا عن إقفال الطريق أمام دارسيه من مواصلة تعليمهم الجامعي، مما جعل الطلاب -أيًا كان وضعهم الاجتماعي- يفضلون الالتحاق بالتعليم النظري، وقد امتد هذا الفصل من جهة إلى قطع صلة التعليم النظري بكل ما هو عملي، وامتد هذا التأثير إلى جعل المتخرجين من التعليم المهني والتقني يفضلون شكل الوظائف المكتبية أو وظائف أخرى لا تمت بصلة إلى تخصصاتهم التي أعدوا من أجلها.[14]
مع الانتشار الواسع للتعليم الجامعي وافتتاح العديد من الجامعات الأهلية التي تحوي تخصصات نظرية وتطبيقية متنوعة، وقبول العديد من الطلاب وبأسعار تنافسية أحجم الكثير من الطلاب عن الالتحاق بالتعليم الفني والتدريب المهني وفضلوا الالتحاق بالتعليم الجامعي الأكاديمي عن التحاقهم بالتعليم الفني والتدريب المهني، على الرغم من أن مخرجاته -أي التعليم الجامعي- تعاني كثيرًا في المراحل الأخيرة من البطالة والتضخم في أعداد المتخرجين مقابل احتياجات سوق العمل.
وتجدر الإشارة هنا أن إلى أن معظم الطلاب لا يلتحقوا بالتعليم المهني والفني حسب رغبتهم، ولكن نتيجة لمعدلهم المتدني أو لظروفهم المادية الضعيفة التي لا تُمكنهم من تحمل نفقات التعليم الثانوي والجامعي، وهذا يجعلهم غير مستعدين لمزاولة الأنشطة الفنية والمهنية بعد تخرجهم، ويفضلون إما عدم العمل بالنسبة للإناث، أو احتراف أي عمل آخر بالنسبة للذكور.[15]
انعكست الأسباب السابقة الذكر بشكل واضح على مستوى الاستمرار في التعليم الفني والتدريب المهني، لا سيما بعد أن يدرك الطلاب أن هذا النوع من التعليم لم يلب رغبتهم أو طموحهم الذي يسعون إليه، أو أنهم يكتفون بما تعلموه في المراحل الدراسية الأولى.
وقد كشفت دراسة اقتصادية حديثة أن نسبة التسرب للطلاب الملتحقين بالتعليم الفني والتدريب المهني للبرامج التي تمتد ثلاث سنوات بعد الثانوية في اليمن بلغت (21٪) خلال العام الدراسي 2017/2018، حيث انخفض عدد متخرجي المعاهد التقنية والمهنية الحكومية من (4.8) ألف متخرج عام 2017/2018 إلى (4.1) ألف متخرج عام 2019/2020، وأشارت الدراسة إلى أن معدلات النمو لمتخرجي المعاهد التقنية والمهنية النظامية تستمر بالانخفاض، مرجعةً ذلك إلى أن المعاهد الحكومية تركز على الجانب النظري أكثر من العملي، وإلى عدم وجود مواد التدريب الخام وتسرب الكادر.[16]
أما طلاب كليات المجتمع فقد بلغ عدد الطلاب المنتسبين إليها خلال العام الدراسي 2019/2020 في مختلف المحافظات اليمنية (5,933) طالبًا وطالبة، وبمقارنة هذه الأعداد بأعداد الالتحاق في الأعوام الماضية يتبين أن هناك نقصًا في نسبة الالتحاق بالكليات وصل إلى حدود (20٪)، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة أهمها: توجه الشباب إلى جبهات القتال، وتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي لدى الكثير من الأسر التي أصبحت لا تستطيع الإنفاق على أولادها ليكملوا دراستهم وغيرها.[17]
يحتاج التعليم الفني والتدريب المهني إلى إعداد بيئة تعليمية متكاملة ومناسبة وتجهيزها؛ حتى يستطيع تحقيق أهدافه التعليمية التي أنشئ من أجلها، وتظهر بيانات رسمية ارتفاع تكاليف الطالب في التعليم الفني والتدريب المهني إلى خمسة أضعاف تكلفته في التعليم العام. ويمكن إرجاع أسباب ارتفاع تكاليف الطالب في التعليم الفني والتدريب المهني إلى أن هذا النوع من التعليم يتطلب توفير بنية تحتية، تتكون من العديد من المستلزمات، حيث يطبق كل ما تعلمه على الأجهزة والمعدات والآلات والورش التي يتطلب شراءها وصيانتها تكلفة عالية، في الوقت الذي قد يصل فيه تكلفة إنشاء معهد تقني مع تجهيزاته إلى نحو ملياري ريال وهو مبلغ كبير في مقابل مبلغ 150 مليون لإنشاء مدرسة واحدة مكونة من 20 فصلًا بكامل مستلزماتها،[18] ما يعني أن إنشاء معهد واحد يقابله إنشاء 13 مدرسة! الأمر الذي يدفع بالعديد من المستثمرين في قطاع التعليم من رجال الأعمال والتجار إلى تفضيل الاستثمار في التعليم العام بدلًا من التعليم الفني والتدريب المهني، في حين يظل هذا القطاع من التعليم يعتمد بشكل أساسي على إمكانيات الدولة وقدراتها ودعمها في إنشاء مراكز ومعاهد التعليم الفني والتدريب المهني وتأهيلها أو ترميمها، ما يؤدي إلى ضعف هذا القطاع وتدهوره في ظل قلة إمكانيات الدولة وزيادة حجم الاحتياج ووجود قضايا عديدة تحتل أولوية في سياسة الدولة.
من أبرز المعوقات التي يواجهها قطاع التعليم الفني والمهني في اليمن تلك التي تتعلق بإعداد المخرجات التعليمية لسوق العمل، دون مراعاة الاحتياجات الأساسية والعاجلة لهذا السوق، وعلى الرغم من القيام بالعديد من المحاولات لإصلاحات الوضع، فإن العلاقة بين كل من منظومة التعليم الفني والتدريب المهني ومتطلبات السوق ومؤسسات القطاع الخاص لا تزال ضعيفة، حيث لم يكتمل نظام معلومات سوق العمل على المستوى الوطني بعد؛ إذ لا تتوافر دراسات عن المتطلبات للموارد البشرية المرتبطة لتطوير المناطق الجغرافية أو القطاعات الاقتصادية المختلفة، وليس لدى بعض مؤسسات التعليم الفني والمهني القدرة أو المهارات أو الموارد التي تمكنها من تطوير علاقات عمل قوية مع أصحاب العمل في المجالات التي تقوم بتدريب العمال فيه.[19]
كل هذه الإشكاليات وغيرها جعلت من أدوار التعليم الفني والتدريب المهني محدودة ومقصوره على قطاعات بسيطة، وأدت إلى عدم الاهتمام به والتركيز على جوانب تعليمية واستثمارية أخرى، أبرزها التعليم العام والتعليم العالي الذي أصبح ينافس وبقوة بمخرجاته مخرجات التعليم الفني والتدريب المهني، مما عزز من الصورة النمطية لهذا النوع من التعليم وهي الصورة التي تُعد أهم تحدياته وأبرزها في الوقت الحالي.
يظهر دور التعليم في عملية تحقيق التنمية المستدامة في أنه يمثل أحد أهم عوامل الاستثمار في الموارد البشرية وتطويرها وزيادة كفايتها؛ بسبب ما يعود به على المجتمع من مخرجات ما تلبث أن تتحول إلى سوق العمل، كما أن التعليم بأنواعه العام والفني والمهني يعد أحد أهم مؤشرات التنمية المستدامة التي تسعى البشرية جميعها إلى الوصول إليها؛ تحقيقًا لحياة أفضل ومستوى معيشي يصل نحو الرفاهية والتقدم والتطور.
لذا تعمل المخرجات التعليمية لقطاع التعليم الفني والتدريب المهني على تلبية احتياجات سوق العمل التجاري والصناعي والحرفي وغيرها، كما أنها تُعد شريكًا حقيقيًا في تحقيق التنمية المستدامة، فلا تنمية مستدامة بدون تعليم مهني وتقني، ولا تعليم مهني وتقني بدون اكتساب المهارات. إن قضية التنمية المستدامة ليست حدثًا عابرًا، بل هي عملية مستمرة تؤثر إيجابًا في المواطنين،[20] ويقصد بمفهوم التنمية المستدامة هنا عملية مستمرة تعبر عن احتياجات المجتمع، وتقوم على مبدأ العدالة والمشاركة العامة، وترشيد استخدام الموارد الطبيعية والمحافظة على حقوق الأجيال المستقبلية، واتخاذ تحولات هيكلية في الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتمكين لآليات التغيير وضمان استمراره.[21] ويسعى التعليم الفني والتدريب المهني إلى تحقيق التنمية المستدامة من خلال الأبعاد الآتية:
يتمثل في تمكين مخرجات التعليم الفني والتدريب المهني من ولوج عالم العمل، بحسب طبيعة التخصص المهني المطلوب في سوق العمل الذي يؤدي إلى تعزيز عملية التنمية الاقتصادية؛ لأن العامل الماهر المؤهل تعليمًا وتدريبًا تكون له فرصة أكبر للعمل بوصفه فردًا منتجًا يحقق قيمة مضافة تُسهم في تنشيط الاقتصاد؛ إذ يوفر التعليم المهني قاعدة أساسية لفئة كبيرة من الطلاب تُسهم في ترسيخ ثقافة الإنتاج في عقول الشباب وإقصاء ثقافة الاستهلاك والسلوكيات غير المبررة، لينعكس ذلك على تطوير مستويات المعيشة وتحسين نمط الحياة، ومن ثم يمكن من خلال دور التعليم المهني تنمية الصناعة ورفع الكفاية الإنتاجية، وبذلك يشكل التعليم المهني أحد المكونات الأساسية للخدمات التي تُقدم للمجتمع، وتعمل على تعميق التفاعل بين التعليم وحاجات التنمية.
يتمثل في تنمية قدرات الفرد وطاقاته وإمكاناته؛ للوصول إلى أقصى مستوى يمكن الوصول إليه من حيث الكفاية والخبرة وما لذلك من انعكاس إيجابي على دخل الفرد من ناحية، وتنمية المجتمعات وتطويرها من ناحية أخرى.
إن تصاعد مستويات فاعلية مؤسسات التعلم المهني تعني تزايد إسهامه في تنفيذ خطط التنمية التي تتوقف على تكوين قوى عاملة، تتمتع بالمهارات والكفايات الفنية اللازمة للإنتاج الصناعي الحديث، ويستند هذا الرأي على فلسفة تدعو إلى استيعاب التغير التكنولوجي والاقتصادي والعمل على استحداثه.
تتضح الاعتبارات الاقتصادية في تخطيط التعليم في ارتباطه بتخريج القوى العاملة، فالتعليم هو عنصر من عناصر تحريك عملية الإنتاج؛ إذ يفترض أن يتحول النظام التعليمي من العفوية في النمو الى تطبيق مبدأ التخطيط في إطار التنمية؛ لمواجهة متطلبات التغيرات الاقتصادية، فالتنسيق بين السياسة التربوية والتنمية المتكاملة لا بد أن يُبنى على الصلة بين معدل التنمية الاقتصادية وخطة التعليم؛ إذ إن العلاقة بين التنمية والتعليم متبادلة، فكل واحد منهما يؤثر في الآخر.[22]
كل هذه الأبعاد وغيرها تُسهم بشكل مباشر وفعال في تحقيق التنمية المستدامة، لا سيما إذا أُخذت بعين الاعتبار من قبل صناع القرار والقائمين على السياسات التعليمية عند التخطيط لعملية التعليم ووضع استراتيجياته.
والحقيقة أن التعليم الفني والتقني يلعب دورًا حاسمًا في إحداث تغييرات جوهرية في سلوك الفرد وتفكيره، من خلال تزويده بالمعرفة والمهارات اللازمة التي تمكنه من الإسهام الفعال في تنمية مجتمعه المحلي على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. كما يُسهم التعليم الفني والتدريب المهني في تعزيز استقلالية الفرد وتلبية احتياجاته، مما يؤدي إلى تحقيق رفاهيته وزيادة إنتاجيته في العمل، بالإضافة إلى أن التعليم التقني يعمل على تحقيق التنمية المجتمعية من خلال مواءمة تخصصاته ومخرجاته التعليمية مع احتياجات سوق العمل المحلية. كما يعزز التعليم التقني القيم الإنسانية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، مما يؤدي إلى تكوين أفراد يمتلكون الوعي والمسؤولية تجاه المجتمع والبيئة، ومع تطور الألفية الثالثة والانفتاح المعرفي والتكنولوجي السريع أصبح من الضروري على التربويين تعزيز مهارات التفكير العليا لدى المتعلمين باستخدام طرق تعليمية حديثة، هذه الطرق تقوم بتوجيه المتعلمين نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة عبر الأنشطة التعليمية والتربوية المكملة للمناهج الدراسية.[23]
وعلى الرغم من أهمية التعليم الفني والتدريب المهني في عملية تحقيق التنمية المستدامة، فإن التقرير الإقليمي العربي للعام 2021 أشار إلى أن اليمن تقع ضمن الدول الأقل نموًا في معدل المشاركة في البرامج الفنية والمهنية من (15 إلى 24) سنة، بحسب النوع، وأن اليمن لا تزال بعيدة عن تحقيق هدفها الذي يقضي أنه بحلول عام 2030 سيكون هناك ضمان تكافؤ فرص لجميع الرجال والنساء في الحصول على التعليم الفني والمهني، والتعليم العالي الجيّد والميسور التكلفة، بما في ذلك التعليم الجامعي، ويمكن أن نوضح ذلك بشكل أكبر في الجدول الآتي:
جدول (2)
يوضح معدّل المشاركة في البرامج الفنية والمهنية من (15 إلى 24) سنة حسب الجنس[24]
|
البلد |
2010 |
2011 |
2012 |
2013 |
2014 |
2015 |
2016 |
2017 |
2018 |
2019 |
2020 |
|
البحرين |
3.3 |
3 |
3.2 |
3.5 |
3.7 |
3.5 |
3.5 |
3.3 |
3.6 |
3.6 |
|
|
الكويت |
0 |
0 |
0 |
0 |
0 |
0 |
|||||
|
عُمان |
0 |
0.3 |
0 |
0 |
0 |
0 |
0.2 |
0.4 |
0.6 |
0.5 |
|
|
قطر |
0.2 |
0.2 |
0.1 |
0.1 |
0.1 |
0.2 |
0.2 |
0.2 |
0.6 |
0.2 |
0.3 |
|
السعودية |
0.4 |
0.4 |
0.3 |
4.1 |
3.6 |
||||||
|
الإمارات |
0.5 |
0.5 |
0.5 |
0.8 |
|||||||
|
جيبوتي |
2.7 |
||||||||||
|
اليمن |
0.2 |
0.2 |
0 |
يُعد التعليم الفني في جميع دول العالم المصدر الرئيس لإمداد سوق العمل بالعمالة الفنية المدربة مهنيًا وحرفيًا، كما يحظى هذا النوع من التعليم بأهمية كبرى في معظم الدول المتقدمة، سواءً من حكوماتها أو من المجتمع الصناعي والتجاري الذي يسعى إلى الحصول على عمالة متعلمة ومدربة، وتعمل الدول على الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتها في أي مجال من المجالات، لا سيما الحيوية منها التي حققت تقدمًا ملحوظًا فيها، ومثلت نماذجًا لغيرها من الدول، وفي إطار التعليم الفني والتدريب المهني برزت العديد من التجارب الرائدة والمتقدمة نذكر منها ما يأتي:
يُعد التعلم من خلال العمل مكونًا تقليديًا في نظام التعليم الألماني، ويلعب التعلم القائم على العمل دورًا رئيسًا في معظم برامج التعليم والتدريب المهني في المرحلتين الثانوية والجامعية، حيث يتألف نظام التعليم والتدريب المهني في ألمانيا من التعليم الابتدائي والتعليم المستمر، ويُعدّ نموذجًا ناجحًا، ويعتمد بشكل كبير على النظام المزدوج (التلمذة المهنية)[25] الذي يُؤدي إلى مؤهلات مهنية عالية الجودة.[26]
ويحظى نظام التعليم والتدريب المهني الألماني المعروف باسم نظام التدريب المزدوج بتقدير عالمي واسع النطاق؛ نظرًا لدمجه بين النظرية والتدريب في بيئة عمل واقعية، ويتمتع النظام المزدوج بجذور راسخة في نظام التعليم الألماني. وتتمثل السمة الرئيسة للنظام المزدوج في التعاون بين الشركات الصغيرة والمتوسطة في معظمها من جهة، والمدارس المهنية الحكومية من جهة أخرى، ويُنظّم هذا التعاون بموجب القانون، حيث سَنَّ قانون التدريب المهني لعام 1969 المُعدّل عام 2005 تحالفًا وثيقًا بين الحكومة الاتحادية والولايات الاتحادية والشركات؛ بهدف توفير التدريب للشباب في مهن معترف بها على الصعيد الوطني، ومنح الشباب المتدرب شهادات صادرة عن جهة مختصة، وهي غرفة الصناعة والتجارة أو غرفة الحرف والمهن على التوالي.
يُقدّم النظام الألماني المزدوج نهجًا عمليًا للغاية لتطوير المهارات، حيث يُغطّي التعليم والتدريب المهني الأولي، والتعليم والتدريب المهني الإضافي، والمسارات المهنية، وقابلية التوظيف، والكفاية المهنية. وبفضل النظام المزدوج، تتمتع ألمانيا بانخفاض معدلات البطالة بين الشباب ومهارات عالية المستوى، ففي ألمانيا يخضع حوالي 50٪ من جميع متخرجي المدارس لتدريب مهني تُقدّمه شركات ترى أن النظام المزدوج أفضل طريقة لاكتساب كوادر ماهرة.[27]
أما التطورات الرئيسة في التعليم والتدريب المهني الأولي والمستمر في ألمانيا فتمثلت في أنه عام 2023، وبما يتماشى مع أولويات خطة العمل الوطنية، التزمت الدولة باتباع مجالات الأولوية الستة للاتحاد الأوروبي الواردة في توصية المجلس بشأن التعليم والتدريب المهني، وهي:
أما عن تمويل التعليم والتدريب المهني في ألمانيا فتشارك جهات معنية مختلفة من القطاعين العام والخاص في تمويل التعليم والتدريب المهني والتقني، وتشمل هذه الجهات عدة وزارات على المستوى الاتحادي ومستوى الولايات ولا سيما وزارات التعليم، والاقتصاد، والتوظيف. كما تُسهم الوكالة الاتحادية للتوظيف، والسلطات المحلية، والنقابات، والغرف التجارية، والجمعيات، والشركات، والمؤسسات الخاصة، والأفراد في تمويل التعليم والتدريب المهني.[29]
تمثل الشركات المشاركة في برنامج التدريب المزدوج (التدريب المهني) أهم وسيلة لتوظيف الكفايات ولا تقتصر فوائد التدريب على توفير تكاليف التوظيف فحسب، بل تتجنب أيضًا المخاطر الكامنة لتوظيف الموظف غير المناسب، كما يُعد الاستثمار في تدريب عالي الجودة عاملًا أساسيًا للنجاح في عالم يشهد تنافسًا متزايدًا.
وتكمن الفائدة الرئيسة للمتدربين في حصولهم على تدريب ملائم لسوق العمل، مما يعني فرصًا أفضل في سوق العمل، إذ يُمكنهم التدريب من مواجهة تحديات التحديث والتطوير المستمر، للمهارات بفضل ابتكارات العصر الرقمي، مع توسيع نطاق مشاركتهم الاجتماعية والديمقراطية في الوقت نفسه.[30]
تُعدّ برامج التلمذة المهنية (النظام المزدوج) ركيزة التعليم والتدريب المهني الثانوي العالي، حيث تُقدّم هذه البرامج في الغالب على مستوى عالي بحسب المقياس الأوروبي للمؤهلات، وتغطي (326) مهنة، وعادةً ما تستمر البرامج ثلاث سنوات، وتجمع بين مكانين للتعلم، هما الشركات والمدارس المهنية وتبلغ حصة التعلم القائم على العمل حوالي 75٪ وتتحمل الشركات تكاليف التدريب في الشركة وتدفع أجور المتعلمين، إلى ذلك يُؤهَّل من يجتازون الامتحان النهائي الذي تُجريه الغرف بوصفهم مهنيين ماهرين معتمدين، كما تضمن المعايير الوطنية ولوائح التدريب (المناهج الدراسية داخل الشركة وفي المدارس) جودة برامج التدريب المزدوج. كذلك تُقدم الشركات برامج تدريب مهني وفقًا للوائح التدريب التي وضعتها الجهات المعنية الأربعة (الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات، والشركات، والنقابات العمالية)، وتتيح هذه اللوائح الاتفاق على خطط تدريب الشركة مع المتدربين، وهي مفتوحة تكنولوجيًا، كما تتيح أدوات مثل المؤهلات الإضافية، إضافة إلى التمايز في التخصصات المختلفة، ودرجة عالية من المرونة، وقابلية التكيف للوائح التدريب، إضافة إلى ذلك تضمن المراجعات الدورية مواكبة التغيرات التكنولوجية والتنظيمية السريعة.[31]
وتخضع البرامج التدريبية إلى تحديث منتظم، قائم على البحث والحوار بين الشركاء الاجتماعيين والوزارات، وهي من العوامل الرئيسة المساهمة في إحراز تقدم في معظم مجالات أولوية الاتحاد الأوروبي، لا سيما في التكيف مع تغيرات سوق العمل، بالإضافة إلى التحولات الرقمية والخضراء، وزيادة جاذبية التعليم والتدريب المهني من خلال تطوير مسارات مهنية متقدمة، وضمان جودة عالية للتعليم والتدريب المهني، ومنذ عام 2020 حُدثت أو أنشئ (40) برنامجًا تدريبيًا أوليًا و(136) برنامجًا متقدمًا للتعليم والتدريب المهني، ويستند هذا العمل التنظيمي إلى أبحاث استباق المهارات، التي طُورت بشكل مكثف منذ عام 2020؛ لتحديد الاحتياجات من المهارات الجديدة، على سبيل المثال في اقتصاد الهيدروجين الأخضر أو في التقنيات الجديدة. ومن عوامل النجاح الثابتة الأخرى في تنفيذ جميع أولويات الاتحاد الأوروبي الدور الفاعل لجميع أصحاب المصلحة في التعليم والتدريب المهني (الحكومة الاتحادية، والولايات، والشركاء الاجتماعيون) في بناء نظام تعليم وتدريب مهني حديث وشامل. ويُعد الرصد المستمر لتطورات التعليم والتدريب المهني في ألمانيا - كما هو موضح في تقرير بيانات BIBB السنوي وتقرير BMBF المقابل حول التعليم والتدريب المهني - أساسًا لمواصلة تطوير النظام، هذا بالإضافة إلى مجالات التقدم الأخرى التي يجب تسليط الضوء عليها كالابتكار والتميز في التعليم والتدريب المهني، ويزداد توفير التعليم والتدريب المهني جاذبيةً من خلال تطبيق الأدوات الرقمية وتطوير مهارات مدربي التعليم والتدريب المهني، بالإضافة إلى تعزيز فرص التنقل الدولي من خلال المعلومات والتوجيه والنشر. وقد أُحرز تقدمًا كبيرًا في المجالات ذات الأولوية في التعليم والتدريب المهني المرن والشامل من خلال تطوير مؤهلات معيارية متتالية تؤدي إلى تأهيل كامل، ونشر شهادات المهارات المكتسبة بشكل رسمي وغير رسمي. وفي كلتا الحالتين، يُعد الشركاء الاجتماعيون (أصحاب العمل والغرف التجارية) جهات فاعلة مهمة، وهو ما يمثل بدوره عامل النجاح الرئيس.[32]
نظرًا للتحولات الديموغرافية وتوسع التعليم العالي، استقر وضع أماكن التدريب المهني، فتجاوز العرض الطلب؛ ففي عام 2018، لم يتسن شغل حوالي (57,000) مكان تدريب مهني. وعلى الرغم من القيود المالية التي أعقبت الركود الاقتصادي عام 2008، أوفت الشركات بالتزامها بتوفير التدريب المهني، لأسباب أقلها إن عدد متخرجي المدارس بدأ في الانخفاض، وبدأ نقص العمالة الماهرة يؤثر في بعض قطاعات الاقتصاد، لا سيما في قطاع الخدمات اللوجستية، وبعض المجالات التقنية، والخدمات الاجتماعية الشخصية، وعلى الرغم من نقص المهارات من ناحية الطلب، تُرك حوالي (24,000) شاب وشابة -ممن كانوا يحاولون الالتحاق بالمسار المهني- دون فرص تدريب في عام 2018. ولا تشير هذه الفجوة إلى عدم توافق بين العرض والطلب على المهارات فحسب، ولكنها تُشير أيضًا إلى التحدي المتمثل في التحاق عدد كبير من الشباب بالتدريب والتوظيف ممن يفتقرون إلى المهارات والمؤهلات اللازمة للالتحاق ببرنامج مهني.[33]
وتمثل التحدي الأكبر الذي يواجه سوق التدريب والعمل بألمانيا في نقص متعلمي التعليم والتدريب المهني والعمالة الماهرة، وهي حاجة ماسة للتحولات الخضراء والرقمية، كما تواجه شركات التدريب صعوبات في إيجاد متدربين، لا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة في المناطق الريفية، ويمثل نقص العمالة الماهرة بالفعل مشكلة وجودية للعديد من الشركات، فنظرًا للتطورات السكانية، يشيخ السكان النشطون ويحتاجون إلى تعويض، ومن ناحية أخرى هناك عدد أقل من متخرجي المدارس الثانوية، وبالنسبة للكثيرين منهم، لا تبدو صورة التعليم والتدريب المهني جذابة بقدر التعليم الأكاديمي.[34]
كذلك يواجه قطاع التعليم في ألمانيا تحديًا قائمًا على النوع الاجتماعي، فمع إدخال نظام التلمذة الصناعية في القطاع الصناعي، أُنشئت مدارس مهنية بدوام كامل في مجالات مهنية لم تكن جزءًا من نظام التدريب الحرفي أو الصناعي، مثل: التعليم والعمل الاجتماعي والرعاية الصحية، استهدفت هذه المدارس الفتيات الصغيرات لتزويدهن بتعليم مهني لائق وإعدادهن لأدوارهن كربات بيوت ومربيات أو للقيام بمهامهن في مجال الخدمات الشخصية، وقد تطورت هذه المدارس إلى برنامج تدريب مهني قائم على المدرسة، يُغطي تكوين المهارات في مجالات مثل: رعاية الأطفال، والتمريض، ورعاية المسنين، وعلاج النطق، والعلاج الطبيعي وغيرها من المهن، واليوم يغطي البرنامج القائم على المدرسة أكثر من (100) برنامج تدريب مهني، لا تزال تهيمن عليها الإناث، وتشكل ما يقرب من ربع نظام التعليم والتدريب المهني الألماني من حيث عدد الشباب المشاركين.
إضافة إلى ذلك فإن معظم البرامج التدريبية تتطلب مؤهلات قبول عالية نسبيًا، إذ إن أكثر من 80٪ من جميع المسجلين الجدد حاصلون على شهادة إتمام الدراسة الثانوية المتوسطة أو الثانوية العليا، مقارنةً بنحو 70٪ فقط في النظام المزدوج، وفي الوقت الذي تُقدم برامج الدراسة المزدوجة وبرامج التدريب المزدوج، التي تمتد لثلاث سنوات ونصف، تدريبًا متقدمًا ومرموقًا، يلتحق به في الغالب فقط متخرجو المدارس الحاصلون على مؤهل للالتحاق بالجامعات، بينما يُقصي التوسع في التدريب على المهارات العالية بشكل متزايد ذوي التحصيل الدراسي المنخفض والمتسربين من المدارس، مما يعني أن الالتحاق ببرنامج تعليم مهني مؤهل بالكامل أصبح أمرًا شديد التنافسية بالنسبة لهم، مما يدفع هذه الفئة بشكل متزايد إلى التدريب في مهن زراعية أو حرفية أو خدمية أقل مهارة (ومنخفضة الأجر وغير مستقرة) وذات إمكانيات محدودة في سوق العمل، أو يتم استيعابهم في ما يُسمى بنظام الانتقال الذي يتألف من برامج تحضيرية. وقد زاد هذا الأمر من تجزئة نظام التعليم المهني والتدريب وتقسيمه إلى طبقات أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة، وأصبح وضع الشباب ذوي التحصيل الدراسي المنخفض - بمن فيهم المهاجرون واللاجئون الشباب- صعبًا للغاية؛ إذ يواجه عددًا كبيرًا منهم خطرًا كبيرًا بالاستبعاد من سوق العمل على المدى الطويل.
وحتى الآن، كان التأهيل بموجب التدريب المهني المزدوج في القطاعات الصناعية الأساسية يُحقق أكبر الفوائد للشباب من حيث نتائج سوق العمل، ومع ذلك تُشير التطورات في قطاعات التدريب الأخرى إلى أن هذا الوضع قد يتغير، لا سيما مع زيادة التعليم العالي، في الوقت الذي تُسهم فيه مركزية الشركات ومشاركة النقابات العمالية في جميع الطبقات المؤسسية بشكل كبير في استقرار النظام المزدوج وقوته، إلا أنه من الممكن تجنب نقاط ضعفه ومشاكله في تلك السياقات الوطنية حيث تكون أنظمة المدارس وطرق التدريب أقل تجزئة وطبقية.[35]
حقق التعليم المهني في كوريا تقدمًا ملحوظًا على مدار السنوات العشر الماضية، حيث أُرسيت أسس التعليم المهني مع وضع الخطة الخمسية الوطنية للتعليم المهني عام 2010، وخُصص معلمون متخصصون في التوجيه المهني للمدارس الإعدادية والثانوية عام 2011، وأنشئ قسم سياسات التعليم المهني بوزارة التعليم عام 2011، كما صدور قانون التعليم المهني عام 2015، الذي يهدف إلى توضيح مسؤوليات الدولة والولايات والمدارس في توفير تعليم مهني فعّال، بالإضافة إلى التأكيد على حق الطلاب في التعليم المهني دون استثناء، ويتألف قانون التعليم المهني من أربعة فصول و(23) مادة، تصف دور التعليم المهني في تعزيز مهارات التطوير المهني لدى الطلاب والنمو الوطني، كما تم التأكيد على أهمية التعليم المهني بالتنفيذ الكامل للفصل الدراسي المجاني عام 2016، والذي أسهم في افتتاح المركز الوطني للتعليم المهني عام 2017 ودفع عجلة توسع التعليم المهني في كوريا وتقدمه.[36]
يُشكل التعليم المهني في المدارس الجزء الأكبر من نظام التعليم والتدريب المهني في كوريا، ويُقدم التدريب الأولي (التدريب قبل التوظيف) في المرحلة الثانوية العليا (المدارس الثانوية المهنية) والمعاهد الإعدادية بعد الثانوية، ويهدف التعليم المهني إلى توفير تعليم عام متقدم، بالإضافة إلى التعليم المهني في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والتجارة والصيد البحري، وكان معظم طلاب التعليم المهني يدرسون في المدارس الثانوية العليا لإدارة الأعمال والتجارة والتكنولوجيا. وتبلغ مدة الدراسة المطلوبة في جميع المدارس الثانوية الوطنية والحكومية والمهنية ثلاث سنوات.[37]
وينقسم التعليم الفني والمهني في كوريا بحسب المراحل التعليمية إلى ثلاث مراحل:
ويجرى سنويًا مسح حكومي للموظفين والمرافق والبرامج المتعلقة بالتعليم المهني في المدارس الابتدائية والثانوية، كما يتم تحليل الإنجازات والآثار المترتبة على تفعيل التعليم المهني في الفصول الدراسية في التعليم المهني، واستخدام المسح بوصفه موردًا أساسيًا في وضع سياسات التعليم المهني.
ويلعب نظام التدريب المهني في كوريا دورًا رئيسًا في تأمين العمالة الماهرة في سوق العمل خلال مدة التصنيع، كما أن له دورًا في التغلب على التحديات الجديدة الناتجة عن تسارع شيخوخة السكان والتقدم السريع للتكنولوجيا. وتُعد كوريا من الاقتصادات التي تبنت التقنيات المتقدمة بسرعة، واستبدلت الروبوتات بالبشر في المهام الروتينية، ففي المرحلة المقبلة ستشهد كوريا تحولًا جذريًا في التركيبة السكانية نحو مجتمع مُسن في العقود القادمة، وكما هو معروف فإن العديد من كبار السن لديهم إنتاجية أقل من العمال في سن العمل، وغالبًا ما ينتمون إلى وظائف منخفضة الأجر وبدون التدريب المناسب، وذلك يمكن أن يضر بالإنتاجية الإجمالية ونمو الناتج، ما استدعى كوريا إلى تطوير أنشطة تدريب مهني متنوعة تشمل الجميع بمن فيهم كبار السن.[39]
حققت استراتيجية كوريا الجنوبية الصناعية الموجهة نحو التصدير نجاحًا اقتصاديًا هائلًا، فمنذ الوضع الاقتصادي المزري الذي تسببت به الحرب الكورية (1950-1953)، تطورت البلاد لتصبح إحدى أبرز اقتصادات العالم، وانضمت إلى نادي الدول الغنية، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، عام 1996. وبإحرازها تقدمًا ملحوظًا في مواكبة الاقتصادات المتقدمة، حققت كوريا، بين عامي 1960 و2000، معدل نمو اقتصادي سنوي متوسط بلغ 7.9٪، مع تحقيق أعلى معدل نمو في ثمانينيات القرن الماضي، حيث بلغ 9.3٪. ويُنظر إلى هذا الأداء الاقتصادي على نطاق واسع بأنه ناتج عن دعم التعليم الذي عزز النمو الاقتصادي؛ ففي تلك الحقبة شجعت الحكومة التعليم والتدريب المهني وتكوين المهارات الجماعية لدفع عجلة التصنيع المتأخر في البلاد، مما سمح بتحقيق نتائج اجتماعية متساوية بشكل ملحوظ.[40] حيث أحدث نظام التعليم التقني والمهني كوريا الجنوبية مميزات عديدة لا سيما في مجال التنمية الاقتصادية، تجلى ذلك من خلال التقدم الملحوظ في سوق التعليم التقني والمهني، حيث تشير الإحصائيات إلى أنه من المتوقع أن يصل سوق التعليم التقني والمهني في كوريا الجنوبية إلى إيرادات متوقعه قدرها (28) مليون دولار بحلول عام 2030. ومن المتوقع أن يحقق سوق التعليم التقني والمهني في كوريا الجنوبية معدل نمو سنوي مركب قدره 12.3٪ من عام 2025 إلى عام 2030.
ومن القضايا التي ميزت التعليم الفني في كوريا الجنوبية هي أنه نظام يعتمد على سياسة معلم التوجيه المهني، وهي سياسة توفر جودة عالية من التوجيه المهني والإرشاد والمعلومات للطلاب، ووفقًا لقانون التعليم المهني يجب أن يكون لدى كل مدرسة معلم متخصص في التوجيه المهني في المرحلة الابتدائية والثانوية، ويُعين المعلم المتخصص في التوجيه المهني بعد اجتيازه (570) ساعة من برامج التدريب أثناء الخدمة، ويمكن للمعلم الحاصل على مؤهل معلم التوجيه المهني تقديم خدمة توجيه مهني شاملة للطلاب وأولياء الأمور وزملائه المعلمين في المدرسة، وقد امتد في عام 2016 نطاق عمل معلم التوجيه المهني من المدارس المتوسطة والثانوية إلى المدارس الابتدائية، وقد بلغت نسبة تعيين معلم التوجيه المهني في المدارس الابتدائية والثانوية عام 2019 قرابة 96.4٪، مما يسمح للطلاب بتلقي دعم التطوير المهني من معلمين متخصصين متقدمين،[42] وبالإضافة إلى الاعتماد على سياسة معلم التوجيه المهني قامت كوريا الجنوبية بالتركيز على توفير العمالة الماهرة لتغطية احتياجات سوق العمل، من خلال نظام تدريب مهني عالي الجودة، وأُنشئ هذا النظام لضمان توفير العمالة الماهرة بما يتماشى مع التطور الصناعي. فحولت الحكومة الكورية التدريب المهني من مجرد سياسة تنمية إلى سياسة سوق عمل نشطة. وتحول تركيزها من العمالة غير الماهرة إلى العاطلين عن العمل. ثم وُسع النظام المهني لتوفير فرص التعلم مدى الحياة مما أسهم في تطوير مهارات جميع الأفراد، ومكّن الدولة من ضمان توفير العمالة الماهرة والحفاظ على القدرة التنافسية في السوق الاقتصادية العالمية، ويُصنف نظام التدريب الحالي في كوريا إلى ثلاث فئات: التدريب المهني للعاملين، والتدريب المهني للعاطلين عن العمل، والتدريب الحكومي للقطاعات الاستراتيجية. وتُنفذ برامج متنوعة لزيادة فرص التدريب، وتوسيع نطاق سوق التدريب ليشمل مقدمي الخدمات من القطاع الخاص، وتقديم الدعم المالي للشركات الصغيرة والمتوسطة.[43]
ونخلص إلى القول إن كوريا الجنوبية أعطت التعليم الفني والمهني أولوية بوصفه وسيلة لتحقيق نهضتها، فأنشأت شبكة واسعة من المدارس الثانوية والجامعات التقنية، ما أسهم في بناء اقتصاد قوي ومزدهر، كما نجحت كوريا الجنوبية في تحقيق شراكات بين المؤسسات التعليمية والصناعية، وتقديم تدريب عملي مرتبط بسوق العمل المتغير، إضافة إلى أنها خطت خطوات كبيرة في سوق التعليم التقني والمهني بصورة متزايدة يومًا بعد يوم، ما يعكس حجم الاهتمام الحكومي والخاص بهذا النوع من التعليم الذي يدعم سوق العمل واقتصاد البلاد دعمًا ملموسًا وحقيقيًا.
ظهر النموذج الاقتصادي الكوري الجنوبي منذ العام 1997، فبعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بدول آسيا في التسعينات، حققت كوريا الجنوبية معدل نمو اقتصادي متوسط بلغ 4.1٪ بين عامي 2000 و2010، لكن بين عامي 2010 و2019، انخفض المعدل إلى 3.3٪، وعلى الرغم من أن هذا لا يُعد بأي حال من الأحوال أداءً اقتصاديًا ضعيفًا، فقد أُثيرت مخاوف بشأن الآفاق الاقتصادية لكوريا على المدى الطويل، فبعد أن كان يُشاد بنموذجها الاقتصادي المُعزز للتعليم والنمو، شهدت تراجعًا في تكوين المهارات الجماعية، مما أثر بشكل كبير في إنتاجية العمل في الشركات الصغيرة والمتوسطة وخصوصًا قطاع الخدمات، ويُمثل هذا تحديًا كبيرًا لنموذج النمو الكوري، بل للنموذج الاجتماعي للبلاد.
مع سيطرة أصحاب العمل الكبار، قام تحالف قطاعي من قطاع الأعمال والحكومة بتفكيك نظام تكوين المهارات التنموية، كما أدى تحول في السلطة بين الشركات الكبرى والدولة إلى تقويض محاولات الحكومة لإعادة تنشيط التعليم والتدريب المهني، ولذلك بدلًا من اعتبار إعادة اكتشاف الحكومة لسياسة التعليم والتدريب المهني وتكوين المهارات الجماعية عودةً إلى التنمية، وجد أن أصحاب العمل ذوي النفوذ يتجاهلون سياسة الحكومة في التعليم والتدريب المهني. وهذا يُؤكد على تراجع الدولة التنموية أو التنسيق الذي تقوده الدولة في كوريا.[44]
وضمن مجموعة العيوب، بدأ التمييز بين متخرجي الجامعات ومتخرجي التعليم المهني واضحًا، حيث إن سوق العمل في كوريا يعدّ الخلفية الأكاديمية للباحثين عن عمل أهم من كفايتهم، وهذه النظرة الاجتماعية قد تحول دون تطوير التعليم المهني، كذلك يحصل الأشخاص ذوو التعليم العالي على دخل أعلى، فالأجر الشهري لمتخرجي المدارس الثانوية أقل من متخرجي الجامعات بحوالي (1,000,000) وون كوري، أي ما يعادل (859) دولارًا، الأمر الذي يؤدي إلى تجنب الطلبة للمسار المهني والاتجاه للمسار العام، لا سيما أن التراث الكونفوشيوسي، يعتبر محتويات التعلم العام أعلى من المعرفة المتخصصة والمهارات ذات الصلة بحياة العمل، إلى ذلك يُنظر إلى التعليم المهني في كوريا بوصفه تعليمًا من الدرجة الثانية، وبالتالي تَهمّش التعليم المهني.
ومن القضايا المهمة في تحديات التعليم الفني والتدرب المهني في المجال الصناعي في كوريا عدم تطابق مهارات المتخرجين في مكان العمل، حيث يرى أصحاب العمل أن المتخرجين الجدد ليسوا على مستوى الكفاية المطلوبة أو اللازمة لمكان العمل، ولذا تتحمل الشركات تكاليف إعادة التعليم أو التدريب للموظفين الجدد، وقد بلغ متوسط مدة تدريب الموظفين الجدد 18 شهرًا، بتكلفة بلغت حوالي (60,888) دولارًا، إضافة إلى أن عملية صنع القرار بشأن نظام التعليم المهني تقودها الحكومة ومقدمو التعليم، وأن مؤسسات التعليم والتدريب المهني تقوم بتطوير المناهج الدراسية الخاصة بها، وتوفير المؤهلات اللازمة لتلبية احتياجات سوق العمل، كما أنه ليس لدى مقدمي التعليم المهني قدرات لتلبية الاحتياجات الصناعية، إضافة إلى أن النظام الحكومي الداعم غير كاف.[45]
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها كوريا الجنوبية في عملية التأهيل والتدريب، فإن هذه التجربة تواجه إشكاليات حقيقة تطلب منها مزيدًا من التدخلات؛ بحثًا عن حلول ناجعة تحول دون تحقيق التعليم والتدريب المهني لأدواره المطلوبة منه.
عبر سنوات عدة اُعتبرت اليابان من الدول ذات التجارب الرائدة والسباقة في العديد من المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية وغيرها، بل وعدت الكثير منها تجاربًا ونماذجًا للكثير من الدول المتقدمة والنامية، وتقوم سياسة اليابان على الجمع بين التقدم والتطور والثقافة الشعبية والعادات المستلهمة من الموروث في النظر على أن التعليم يمثل قيمة بحد ذاته بمختلف أنواعه وتخصصاته، وفي الآونة الأخيرة ونتيجةً للتغيرات في القطاع الصناعي وزيادة المهارات المطلوبة للعمل، ازدادت شعبية مؤسسات التعليم والتدريب المهني، لا سيما ما يتعلق منها بالدورات المتخصصة في كليات التدريب المهني، وأصبحت المدارس المهنية لا تجذب متخرجي المدارس الثانوية فحسب، بل تجذب أيضًا متخرجي الجامعات الذين لم ينجحوا في الحصول على وظائف بعد التخرج.[46]
يُقدم التعليم المهني في اليابان من خلال مسارين مختلفين، يكتسب الطلاب من خلالهما مستويات متشابهة من المهارات المهنية، في المسار الأول يتقدم الطلاب للالتحاق بالكليات التقنية بعد تخرجهم من المدرسة الابتدائية العليا، في سن الخامسة عشرة، وتمتد دراستهم في هذه الكليات لخمس سنوات كاملة. أما في المسار الثاني، فيلتحق الطلاب بالكليات الإعدادية، حيث تُقدم الدراسة لمدة عامين ويمكن لخريجي الكليات التقنية والكليات الإعدادية التقدم للالتحاق بالجامعات التقنية لإكمال تعليمهم العالي. وهذا الأمر شجع كثيرًا من الطلاب للالتحاق بالتعليم المهني؛ لأنه لا يمثل عائقًا للاستمرار في التعليم العالي وإمكانية الحصول على شهادة عليا في حال رغبوا بذلك.[47] وتشير الدراسات إلى وجود معايير ثقافية تقليدية راسخة للتعليم الفني والتدريب المهني في اليابان، حيث إن التعليم والتدريب المهني والتقني في المرحلة الثانوية العليا والجامعية يكون بعد تجاوز الطلاب سن 18 عامًا، أما كليات التدريب المتخصصة فهي لمن يبلغون سن الخامسة عشرة في حين تحظى الكليات التكنولوجية المتخصصة « كوسن» بتقدير ومكانة أكبر، ففيها يقضي الطلاب الملتحقون خمس سنوات من التعليم والتدريب. أما الكليات المتوسطة «تانكي ديداكو» فتقدم برامج تعليم وتدريب مهني وتقني لمدة عامين لما بعد ثمانية عشر عامًا، في الوقت الذي تقدم المدارس المهنية برامجًا لمدة عامين إلى ثلاثة أعوام.[48]
وتقع مسؤولية توفير قطاع التعليم والتدريب المهني والإشراف عليه في الغالب على عاتق وزارتين: وزارة التعليم والرياضة والثقافة والعلوم والتكنولوجيا (MEXT) ووزارة الصحة والعمل والرفاهية (WHLW)، تتولى وزارة التعليم والرياضة والثقافة والعلوم والتكنولوجيا مسؤولية التعليم المدرسي الشامل العام، الذي يشمل بعض المدارس المهنية مثل: كليات التكنولوجيا، والمدارس الثانوية العليا المتخصصة، أما وزارة الصحة والعمل والرفاهية فهي مسؤولة بشكل رئيس عن التدريب المهني العام وإدارة اختبارات المهارات والمؤهلات المهنية، بالإضافة إلى ذلك تُقدم وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة (METI) تعليمًا مهنيًا في قطاعي المدارس والتعليم العالي؛ لتحسين جاهزية الطلاب للعمل؛ بهدف تطوير مسارات أفضل بين التعليم المهني والجامعي، وكذلك لتحسين جودة التعليم والتدريب المهني بوصفه جزءًا من نظام التعليم الأوسع، وتُطبّق وزارة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتكنولوجيا سياسات وبرامج جديدة، كما تناقش إنشاء نوع جديد من مؤسسات التعليم العالي في قطاع التعليم المهني.[49]
أظهر التعليم المهني في اليابان تميزًا كبيرًا؛ لأنه يهتم بالتخطيط المنهجي والمنظم، حيث تجري وزارة العمل مسحًا سنويًا لتحديد المهارات التي يفتقر إليها سوق العمل، من خلال التواصل مع عينة من المصانع لتحديد احتياجاتها، وبناءً على ذلك أُعِدَّت خطة خمسية، وطلب من كل محافظة من محافظات اليابان البالغ عددها سبع وأربعون محافظة أن تُعِد خطتها من خلال مجلس التدريب الفني في المحافظة، واستندًا على ذلك تُؤهل الكليات التقنية في اليابان الطلاب، وتُسهم في العلوم من خلال البحث العلمي، كما يُموّل البحث من خلال التعاون بين الكليات والصناعة المحلية، مما يُسهم في تنمية الصناعة والمجتمع بشكل عام، إضافة إلى ذلك يعمل البحث المُتعلق بمشكلات الصناعة على تحسين محتوى البرامج التعليمية، وهو ما ينعكس لاحقًا على المناهج والتربية من خلال مشاركة الكليات التعليمية في البحث،[50] أضف إلى ذلك أن معظم برامج التعليم المهني في اليابان تتميز بتخصيص 70٪ من المواد الدراسية للمواد المهنية المتخصصة، بينما تُخصص النسبة المتبقية 30٪ للرياضيات واللغة اليابانية واللغات الأجنبية، ما يعني أنها تجمع بين الجانب التعليمي التأهيلي والتدريبي والجانب المهاري المرتبطة بتطوير جوانب اللغة والتواصل مع الآخر؛ للاستفادة من خبراته في هذا المجال.
ويوفر نظام التعليم المهني في اليابان نموذجًا خاصًا لتدريب المواهب اليابانية، من خلال تدريب الطلاب المتميزين الذين لديهم إمكانيات وقدرات مهارية خاصة، وهو نظام يجمع بين التعليم العالي والتدريب المهني، وتكون مسارات تدريب المواهب على النحو الآتي:
على أن أحد أهم ما يميز تجربة التعليم والتدريب المهني والتقني في اليابان هو أن تمويل هذا النوع من التعليم يعدّ مسؤولية مشتركة لعدد من القطاعات الحيوية، فتتعدد مصادر التمويل في كوريا منها التمويل الحكومي، والضرائب العامة، وضرائب التعليم، والهبات والتبرعات، وضرائب التدريب، والدعم الدولي، والتمويل الخاص، ويتولى القطاع الخاص دعم ثلث المدارس الفنية والتقنية الصناعية. كل هذه الدعم لا بد أنه يصب في مصلحة تطور التعليم والتدريب المهني والتقني وتنميته في اليابان، ويُسهم في إيجاد قاعدة مؤسسية وشراكة حقيقية في دعم هذا التعليم الذي يدفع نحو تحقيق تنمية مستدامة.
تبرز أولى تحديات التعليم والتدريب المهني في اليابان في قلة عدد الملتحقين به؛ فعلى الرغم من ارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم بعد سن الخامسة عشرة في اليابان، فإن عدد الملتحقين بالمسارات المهنية في هذا العمر أقل بكثير من المتوسطات الدولية؛ حيث لا يتجاوز 23٪ من طلاب المرحلة الثانوية العليا المسجلين في التعليم المهني، مقارنةً بمتوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 44٪؛ إذ يركز الآباء على التعليم الأكاديمي التقليدي أكثر من التعليم المهني، وتظل المدرسة المهنية خيارًا احتياطيًا للطلاب ذوي الدرجات الأدنى أو القادمين من مستويات أو خلفيات اجتماعية واقتصادية أقل! وبطبيعة الحال تُولي الثقافة في اليابان أهمية كبيرة للتعليم الأكاديمي والنجاح التعليمي بشكل عام، ومع ذلك فإنه نظرًا للتغيرات الحديثة في الصناعة مثل: زيادة التكنولوجيا والرقمنة، وزيادة في المهارات المطلوبة للعمل، اكتسبت مؤسسات التعليم والتدريب المهني والتقني، لاسيما الدورات المتخصصة في كليات التدريب المهني «senmon gakko»، شعبية متزايدة؛ الأمر الذي أدى إلى تزايد الالتحاق بهذه المؤسسات والدورات بعد مراحل من التراجع المستمر.[52]
وبالإضافة إلى هذه النظرة السائدة تجاه التعليم والتدريب المهني يواجه قطاع التعليم والتدريب المهني في اليابان تحديًا آخر يتمثل في أن نظام التعليم والتدريب المهني لا يمتلك حاليًا إطارًا راسخًا لضمان الجودة، حيث إن المدارس المهنية غالبًا لا تحظى بالتقييم المناسب من المجتمع. إضافة إلى أن مسارات الانتقال من المدارس المهنية إلى الجامعات لا تزال غير متطورة بشكل كافٍ، فنسبة 2٪ فقط من الملتحقين بالجامعات اليابانية تزيد أعمارهم عن خمسة وعشرين عامًا (مقارنةً بمتوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 18٪). كما تُقلل عوائق دخول كبار السن من فرص التنقل وفرص إعادة صقل المهارات والتعلم مدى الحياة، ويدرس حاليًا حوالي 20٪ من طلاب التعليم الثانوي العالي في المدارس المهنية، بينما لا يلتحق بالجامعات سوى 20٪ منهم، لذا يُعد توفير فرص أوسع لمواصلة التعليم أحد التحديات التي تواجهها الحكومة اليابانية.[53]
ويوصف نظام التعليم والتدريب المهني في اليابان بأنه نظام تعليم مجزأ، حيث يتألف نظام التعليم العالي إلى جانب التعليم والتدريب المهني من مؤسسات منفصلة تفتقر إلى إمكانية المقارنة فيما بينها، وتُعيقها الحواجز القضائية الإدارية التي تحكم كل مؤسسة. فعلى سبيل المثال لا يحق لمؤسسات مثل: مؤسسات التعليم المهني المتخصصة، ككليات التكنولوجيا (kosen) والنوع الياباني من المعاهد الفنية -المكافئة للجامعات والكليات في البرامج طويلة الأجل- وغيرها من كليات التدريب الخاصة التي تُشكل غالبية طلاب التعليم والتدريب المهني منح شهادات الزمالة أو البكالوريوس. وهذا يُنشئ فصلًا بين التعليم المهني والبرامج الأكاديمية التقليدية؛ نظرًا لصياغتها بحيث لا تتوافق مع بعضها بعضًا في الإطار التعليمي المُعتاد،[54] وهو ما يعني أن الالتحاق والتعليم في هذه الكليات يبقى شكليًا خاليًا من أي مميزات تُعطى لمؤسسات التعليم العالي، كما أن مجال التدريب العملي المتخصص الذي يعمل على إكساب الكفايات الأساسية في المدرسة من خلال تقديم تدريب عملي متخصص في مكان العمل قد تميز بالتجزئة الشديدة وعدم وجود إطار عمل مشترك لتقييم توافق المؤهلات في نهاية التعليم المهني، بالإضافة إلى ذلك تتسم العلاقة بين المدرسة والشركة، سواء في مرحلة التعليم الثانوي أو العالي بنقص الشراكات الخاصة، ومع اتساع النقاش حول التوظيف القائم على الوظيفة والمبادرات الرامية إلى ضمان جودة التعليم والتدريب، يُمثل إصلاح هذا النظام تحديًا للتعليم والتدريب المهني في القرن الحادي والعشرين.[55]
مرّت تجربة التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن بمدة تزيد عن (130) عامًا، وعلى الرغم من هذا الامتداد الزمني والإسهامات التي حققتها في مراحل معينة، فإنها لا تزال دون المستوى المنشود والطموحات التي تسعى الدول إلى تحقيقها. ويُعزى هذا القصور إلى جملة من العوامل، في مقدمتها الأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستقرة التي مرّت بها اليمن، وأثّرت بشكل مباشر في مسار التنمية والنهضة المجتمعية، بل وتسببت في كثير من الأحيان في فقدان ما بُني أو حُقق من إنجازات سابقة في هذا القطاع.
ومن المهم التأكيد هنا أننا عندما ندرس ونحلل واقع التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن، فإننا لا نقوم بذلك من باب المقارنة المجردة أو التقليل من حجم الجهود المبذولة، بل من منطلق الحاجة المُلحّة إلى تطوير هذا القطاع الحيوي بالاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، لا سيما تلك التي واجهت تحديات مشابهة واستطاعت تجاوزها بإرادة واضحة واستراتيجيات مدروسة.
إن تجارب مثل تجربة ألمانيا، وكوريا الجنوبية، واليابان، تُعد نماذج ملهمة في هذا المجال، حيث استطاعت هذه الدول أن تجعل من التعليم الفني ركيزة أساسية في خططها التنموية، ودروسًا مستفادة يمكن تطبيقها على واقع التعليم الفني في اليمن، هذه الدروس لا تمثل مجرد نظريات، بل هي ناتجة عن مسارات عملية ناجحة يمكن أن تُسهم، إذا ما طُبقت بفعالية، في تحسين واقع التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن، وتحويله إلى مسار حيوي يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الدروس المستفادة من هذه التجارب التي يمكن تطبيقها على تجربة التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن، ومنها:
يُعد خلق شراكة فاعلة بين مؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني من جهة، والقطاعات الحكومية والخاصة من جهة أخرى، من العوامل الأساسية التي أسهمت في نجاح هذا النوع من التعليم في العديد من الدول المتقدمة.
تبدأ هذه الشراكة من خلال سن قوانين وتشريعات واضحة تُلزم – أو على الأقل تُشجع – مختلف القطاعات -لا سيما القطاع الخاص- على الإسهام في إعداد مخرجات التعليم الفني والتدريب المهني وتأهيلها وتمويلها.
وتتجلى هذه الشراكة في السماح للطلاب والمتدربين بالنزول الميداني إلى مواقع العمل، أو تنفيذ برامج تدريبية تطبيقية تحت إشراف مباشر من المؤسسات التعليمية بالتعاون مع الجهة المستضيفة، ويُعد هذا الأمر فرصة حقيقية للمتدربين للاندماج المبكر في سوق العمل، وفهم احتياجاته الواقعية، كما يُمكن للجهات الشريكة منح المتدربين شهادات خبرة مهنية، مما يعزز فرصهم في الحصول على وظائف بعد التخرج.
زيادة على ذلك يُفترض أن تسهم الجهات الحكومية والخاصة، لا سيما تلك التي تعتمد في أعمالها على الكفايات الفنية في تمويل هذا النوع من التعليم؛ نظرًا لما تعود به مخرجاته من فائدة مباشرة عليها في مجالات الصناعة، والزراعة، والتجارة، والحرف، وتقنية المعلومات وغيرها.
إن بناء شراكة استراتيجية من هذا النوع، لا يُسهم فقط في تطوير قدرات المتدربين، بل يُعزز كذلك من إنتاجية وكفاية سوق العمل، ويُسهم في تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي مستدام.
أشرنا سابقًا في تجربة اليابان أن هذه الدولة أولت اهتمامًا بالغًا للتخطيط المنهجي في تطوير التعليم الفني والتدريب المهني، حيث اعتمدت على إجراء مسوح سنوية لرصد المهارات التي يفتقر إليها سوق العمل. وقد كان ذلك من خلال دراسات علمية دقيقة استهدفت المصانع والمؤسسات ذات العلاقة، ثم قامت ببناء خططها التعليمية والتنموية بناءً على نتائج تلك الدراسات، ويُعد اعتمادها على البحث العلمي أحد أبرز العوامل التي أسهمت في تحقيق نقلة نوعية وتحسن ملموس في هذا القطاع.
وبالاستفادة من هذه التجربة، فإننا في اليمن بحاجة ماسّة إلى توجيه البحث العلمي نحو دراسة واقع التعليم الفني والتدريب المهني بعمق وجدية، حيث ينبغي تشجيع طلاب الدراسات العليا والباحثين على تناول هذا القطاع من خلال دراسات ميدانية تسلط الضوء على أبرز التحديات، وتحدد أولويات الإصلاح واحتياجات سوق العمل، مع التركيز على جوانب الضعف التي ينبغي معالجتها، وتعزيز نقاط القوة التي يمكن البناء عليها.
كما أنه من الضروري أن تسهم هذه الجهود البحثية في تصحيح الصورة النمطية السائدة عن التعليم الفني والتدريب المهني، وتغيير النظرة المجتمعية السلبية التي تضعه في مرتبة متدنية مقارنة بالتعليم العام أو الجامعي، في حين أنه يمثل قطاعًا استراتيجيًا يمكن أن يكون له دور فاعل في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والخروج من الواقع المأساوي الذي تعاني منه اليمن.
يشهد العالم اليوم ثورة تكنولوجية ومعلوماتية غير مسبوقة، أثرت بشكل كبير في مختلف المجالات، لاسيما في التعليم، حيث أصبحت الرقمنة والذكاء الاصطناعي محركين أساسيين لتطوير المنظومات التعليمية، ورفع مستوى الجودة والكفاية وسرعة الإنجاز، وفي هذا السياق باتت الدول الرائدة في التعليم الفني والتدريب المهني تعتمد بشكل متزايد على التقنيات الحديثة في بناء مناهجها، وتصميم بيئات تعليمية تفاعلية تحاكي سوق العمل.
في المقابل، ما يزال قطاع التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن يعاني من الجمود، سواء على مستوى تحديث المناهج والمقررات الدراسية أو من حيث إدخال تقنيات حديثة في التدريب العملي، ولا تزال الوسائل المستخدمة في التدريب تعتمد على أدوات تقليدية ومعدات قديمة، مما يحدّ من قدرة المتدربين على اكتساب المهارات التي يتطلبها سوق العمل الحديث.
ومن أبرز أدوات الثورة التكنولوجية المعاصرة التي يمكن توظيفها في هذا القطاع: الواقع المعزز (AR)، الذي يدمج العناصر الرقمية في العالم الحقيقي ويوفر تجربة تعليمية غنية وتفاعلية، والواقع الافتراضي (VR) الذي يُمكّن المتدربين من محاكاة بيئات العمل بدقة، مما يتيح لهم ممارسة المهارات الصناعية والتقنية في بيئة آمنة دون إهدار للمواد أو المخاطرة بالمعدات.
لذلك فإن التحول الرقمي لم يعد خيارًا، بل ضرورة حتمية لتطوير التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن، بما يتماشى مع معايير الجودة العالمية ومتطلبات الاقتصاد الرقمي الحديث.
وفي الوقت الذي يشهد فيه التعليم الفني والتدريب المهني تطورًا متسارعًا في العديد من دول العالم، بما في ذلك بعض الدول العربية التي بدأت تتبنى نماذج تعليمية مرنة ومبنية على المهارات والاحتياجات الفعلية لسوق العمل، لا يزال هذا النوع من التعليم في اليمن يفتقر إلى بنية تعليمية منهجية متكاملة وواضحة المعالم، وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد، فإن إدماج التكنولوجيا في التعليم لم يعد ترفًا، بل ضرورة ملحة.
صحيح أن تطبيق الوسائل التكنولوجية الحديثة يتطلب موارد مادية وبشرية وتدريبية قد تكون غير متوافرة حاليًا بالقدر الكافي، إلا أنه من الممكن البدء بحلول بسيطة وفعالة، مثل توظيف تقنيات التعليم الرقمي المجاني عبر شبكة الإنترنت، والاعتماد على المنصات التعليمية المفتوحة، ومصادر التعلم التفاعلي، ومحركات البحث التي توفر محتوى غنيًا وحديثًا يمكن للطلاب والمعلمين الاستفادة منه لتعزيز المعرفة النظرية والمهارات العملية، ويمكن أيضًا التعاون مع مؤسسات إقليمية ودولية لدعم برامج التعليم الإلكتروني والتدريب عن بعد.
تتمثل أهم التغييرات في السياسات التعليمية في إتاحة الفرصة لطلاب التعليم الفني والتدريب المهني لاستكمال دراستهم الجامعية، لا سيما لمن يرغب منهم بذلك، حيث إن ربط هذا النوع من التعليم بمسار أكاديمي مفتوح يعزز من جاذبيته ويمنح الطلاب أفقًا أوسع لتطوير مهاراتهم ومساراتهم المهنية بشكل مستدام. كما يُسهم توفير هذه الفرصة في تغيير النظرة المجتمعية النمطية السلبية التي تُقلل من أهمية التعليم الفني، وتعده خيارًا محدودًا أو مخصصًا لفئات معينة، في حين أن العديد من الدول المتقدمة تراه ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والابتكار.
إضافة إلى ذلك، يمكن لهذا الربط بين التعليم الفني والتعليم الجامعي أن يشجع على جذب المزيد من الطلاب وتحفيزهم على الاستمرار في هذا المسار، مما يرفع من مستوى الكفاية والمهارة في سوق العمل المحلي والإقليمي، وتأتي هذه الخطوة جزءًا من الإصلاحات الشاملة الضرورية لبناء منظومة تعليم فني وتدريب مهني متطورة، تواكب التطورات العالمية وتسهم بفاعلية في إعداد قوى عاملة مؤهلة، تدعم جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإعادة البناء في اليمن، لا سيما في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها القطاع.
تُظهر تجربة التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن تحديات كبيرة على الرغم من تاريخها الطويل؛ فمن خلال دراسة التجارب العالمية الرائدة مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان، يتضح أن نجاح هذا النوع من التعليم يرتبط بشكل كبير بالعديد من الإجراءات الملحة والعاجلة للخروج من الأزمة الحقيقة التي يواجهها هذا التعليم، إن تطبيق هذه الإصلاحات المتكاملة سيمكن من بناء منظومة تعليم فني وتدريب مهني حديثة وفعالة، تُسهم بشكل مباشر في دعم سوق العمل وتعزيز فرص التنمية في البلاد.
يمثل التعليم الفني والتدريب المهني أحد الركائز الأساسية لأي نهضة اقتصادية وتنموية حقيقية، وقد سلطت هذه الدراسة الضوء على واقع هذا النوع من التعليم في اليمن، من خلال تتبع نشأته وتطوره، واستعراض الهيئات والمؤسسات التابعة له، بالإضافة إلى أعداد الطلاب الملتحقين به، وما يعانيه من مشكلات وتحديات مستمرة أدت إلى إضعاف دوره في المجتمع في مقدمتها النظرة المجتمعية السلبية تجاه هذا التعليم، وضعف الإقبال عليه مقارنة بالتعليم العام والجامعي، فضلًا عن ارتفاع معدلات التسرب، وغيرها من المشكلات والتحديات التي انعكست سلبًا على قدرته وإسهاماته الفاعلة في خدمة سوق العمل.
كما تناولت الدراسة تجارب بعض الدول الرائدة في هذا المجال مثل: ألمانيا، وكوريا الجنوبية، واليابان، مشيرة إلى أهم العوامل التي ميزت هذه التجارب العالمية، وكيف استطاعت هذه الدول بفضل وجود رؤية واضحة وسياسات تعليمية متكاملة أن تجعل من التعليم الفني أداة فعالة للتنمية، ومجالًا جاذبًا للشباب، مما عزز من تنافسيتها الاقتصادية عالميًا.
وفي ضوء ما سبق، خلصت الدراسة إلى مجموعة من الاستنتاجات والتوصيات التي تؤكد على ضرورة تطوير التعليم الفني والتدريب المهني في اليمن من خلال تحسين البنية التحتية، وتحديث المناهج، ورفع كفاية الكادر التدريسي، والأهم من ذلك تغيير الصورة النمطية عنه في وعي المجتمع، فبدون تعليم فني فاعل ومتكامل ستظل الفجوة قائمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، وسيظل الشباب يفتقرون إلى المهارات التي تؤهلهم للإنتاج والمشاركة الفعالة في التنمية الوطنية.